لي قميص عزيز، اشتريته قبل سنتين من دون تخطيط، فقد كنتُ ذاهباً إلى السوق الواسع المكيّف، لشراء خبز القمح، وعصير البرتقال، ومسكّن عبثي لألم الأسنان، إلاّ أنّ خطواتي الثقيلة، التي كانت كأنّها منتظمة في جنازة خافتة، اتجهتْ نحو واجهة زجاجية تعرض قمصان الموسم. قميص أزرق استوقفني، ثمّ تابعتُ المشي عشر خطوات، لكنّ إحساساً غامضاً أعادني.. وهذا ما حدث معي مرات كثيرة في الحب.
ارتديتُ القميص في اليوم التالي، وكان نهاراً عملياً عادياً، ثمّ جاءت إجازتي الأسبوعية، وكانت لي مواعيد طارئة في معرض للكتاب. لم أجد شيئاً جاهزاً في خزانتي، فارتديت القميص الأزرق. لم يثر اهتمام أحد، وما أخبرتني امرأة أنّه يمكن أن يطيح بها. ظلّ القميصُ معلقاً على مشجب الباب في حالة استعداد، ألبسه لأنّي تكاسلتُ عن الارتياح في قميص آخر، وهذا ما يحدث عندما يصبح الحبّ اعتياداً.
سافرتُ بقميصي إلى لبنان، ولم يكن في حقيبتي قميص آخر. التصق بي عندما كانت تصل الرطوبة في بيروت مستويات قياسية، والتقطتُ معه صوراً في ميناء جبيل، ورافقني إلى موعد عشاء في مطعم بابل البحري، وعندما كان شاطئ جونيه خلفي، والحبّ من أمامي، كنتُ أيضاً أرتدي القميص الأزرق، وأخبرتني صديقتي أنّ قميصي لا يحجب البحر عنها، وهذا لا يحدث إلاّ إذا كان لون الحبّ أزرق.
سنتان والقميص صار كأنّه طبقة من جلدي، أخلعه فقط لأعطيه للعاملة في محلّ الغسيل والكيّ، أدفع ثمناً مضاعفاً حتى آخذه بعد ساعة، وعندما أذهب إلى المول أو سوق السمك، فإنّي لدى الباعة والزبائن الدائمين، صاحب القميص الأزرق. كنتُ أخشى أن تسقط عليه نقطة زيت، أو يعلق بالدرابزين، شاهدتُ هذا في كوابيسي، لكنّي لم أتخيّل أن ترتخي خيوط الزرّ الأوسط، ويصبح آيلاً للسقوط، والعروة فارغة كطرف آخر من الحب.
أرتدي القميص صباحاً كالمعتاد، ولما أصل الزرّ المرتخي أضعه في العروة كما يسدُّ الطبيبُ ثقباً في القلب، بل كنت أشعر أنّي أضغط على ظُفر نصف منزوع من اللحم. أنظر إليه أثناء العمل، لأطمئنّ على عدم سقوطه، أتحسسه كما يرجو رجل في الستين من سنّه الأمامي الثبات عشرة أعوام حتى لا يخجل من الضحك، لكنّه سقط، الزرّ الذي سيحرمني من الضحك.
وضعتُ الزرّ في يدي كأنّه عهدة عمل، دخلتُ محلّ الخياطة، وخرجتُ منه أضحوكة، إذ أخبرني الخيّاط أنه لم يدرس إعادة تركيب الزرّ، وأنّ هذه مهمة النساء. استضفتُ امرأة في بيتي، أحضرتُ عشاء ونبيذاً وفيلماً لمورغان فريمان. طلبت منها أن تخيط الزرّ. حاولتْ كثيراً ولمّا فشلتْ، اعتبرتْ أنّي أختبرها كزوجة، وألقتْه في وجهي كالخاتم. امرأة بعيدة اقترحت أن ترسل لي قميصاً شبيها، فرفضتُ لأنّ الحبّ يمكن أن يُردّ ولا يمكن أن يستبدل.
العروة فارغة كطرف آخر من الحبّ. أرسلتُ رسائل غرام إلى النساء في كل الاتجاهات، فلا بدّ أنّ واحدة تمتلك مهارة الخياطة، لكنّي ما أزال أنتظر رغم أني واصلتُ الحياة واشتريتُ قمصاناً كثيرة، ويمكن أن أذهب إلى بيروت، وأحبُّ امرأة أمام البحر، أمّا القميص فسيظل معلقاً في خزانتي كأنّه تركة أبي، والزرّ وضعته في إناء فضيّ حتى تزورني أمّي.