ذات صلة

“بني مدريد”

نزلتُ بقدمي إلى ورطة لم أنتبه إلى آخر انحدارها. سألني صديقي الذي يهوى الكلام والطعام إن كنت أشجّع برشلونة أم ريال مدريد. اعتقدت أن الإجابة ستذهب بعد نطقها بقليل برفقة الريح، ولن تكون مفتتح الكلام والطعام في اليوم التالي، وأنها لن تكلفني مزيداً من الشرح والتبرير والتحليل. لذا أجبت على الفور مثل الأطفال حديثي النطق، بأن كرّرت الاختيار الثاني، لكني أضفت شيئاً من الحماسة: “مدريدي طبعاً”، وسقطت في الورطة مبتسماً، واتكأت على ذراعي في القاع.

في الصباح وجدت رسالة من صديقي يسألني عن رأيي في الأهداف الثلاثة التي عبرت إلى شباك الفريق الباريسيّ. كنت مثل موظف مستجد فاته اجتماع لتحديد رموز التخاطب الوظيفي، ومثل عاشق اعتذر عن الموعد الغرامي الأول لمراجعة طبيب الباطنيّة، ومثل الغافل. في المساء استمعت إلى شرح تمثيلي بالأيدي والأقدام عن الأهداف الثلاثة، وبالطبع كان هناك “انفصاليون” من أنصار إقليم كتالونيا، وجرى تبادل لإطلاق النكات الرصاصية، وكُسر طبق الجمبري الذي لم أهنأ به، وبدأت أشعر أن قدميّ علقتا بمزيج الطين والعشب.

أُصبت بقلق الامتحان، فصرت مطالباً بحفظ أسماء اللاعبين وزوجاتهم أو منهنّ في حكمهنّ، والأرقام الفردية والزوجية على قمصانهم، و”تسميع” تصريحاتهم التلفزيونية نهاية الأسبوع، وتأويل تغريداتهم الملغزة على تويتر. كانت غلطة العمر التي لا تقبل الاستدراك حين أجبت أني من “بني مدريد” ولم أحسب تكاليف الإجابة جيّداً، فالآن أصبحت كل كريّات دمي بيضاء، وسكناي ينبغي أن تكون في بيت أبيض، وإن تزوجت يجب أن أسأل عن أصول زوجتي، وأن أخشى أيّ عرق دسّاس لـ البراشنة.

فكّرت بأن أعتذر من صديقي وأصدقائي، وأعترف لهم بأني ضللتهم، وتسرّعت بالإجابة الملعونة، فأنا لست مدريدياً، وولائي ليس للعاصمة، ولوني ليس أبيض، كما أنه لا ضغينة عندي تجاه برشلونة، وأبناء الإقليم عموماً، وأرى أن القرمزي لون فريد، بل إنّي أحياناً أنبهر حين يتحكّم الفتى القصير المعجزة بالكرة، لكني تراجعت عن الاعتراف، فليس مستعبداً أن أوصف بـ”الخائن”، وربما يفسّر تهرّبي الذي قد يُعادل لدى “بني مدريد” الاعتذار عن الخدمة العسكرية في الظروف الطارئة، بأني أخجل من نتائجهم المخزية في الليغا، فأكون بذلك أمحو الفضيحة بالعار.

قبل أيام كانت هناك مباراة عصيبة. قلت لأعطي نفسي فرصة، وأحاول أن أكون مديريدياً مُرّاً. جاء في شباك الفريق الأبيض هدف صحيح، وكما يقول عثمان القريني “لا غبار عليه”. لكني لم أغضب، لم أقذف جهاز تحكم التلفزيون على أكواب الكركديه التي شربتها لخفض توتر غير موجود. لم أشد الباقي من شعري حين استمرّ اللاعب المنحوس في إضاعة الفرص السهلة غير الممتنعة. لم أصفع وجهي، وأشجّ جبهتي بالحائط، وما استعدت واحدة من عاداتي السيّئة في التدخين وشرب القهوة بالكأس المخصصة للشاي، وقضم الأظافر، وعضّ الشفاه، والبكاء من العين والأنف!

اقترب موعد كلاسيكو الأرض لكنّ دمي ما يزال فاتراً، ولديّ شؤون قليلة الشأن أبعدتني عن المراهنات التي أشعر بخسارتها، والتحديات التي ليست على مقاس زندي، والثقة المفرطة التي أفتقدها منذ رسوبي في مادة الكيمياء. تجنّبت المرور من الأماكن التي ستبثّ المباراة، واعتذرت عن مواعيد النرجيلة وكوكتيل الفواكه، وذهبت لطقسي الخاص، فأنا يا صديقي، ويا أصدقائي من العاصمة والإقليم، حين تلتقي مشارق الأرض بمغاربها، وتزدحم المقاهي، وتخلو الشوارع، ولا يعلو سوى صوت عصام الشوالي، أغلق باب بيتي، وأفتح يوتيوب، وأكتب في خانة البحث: الوحدات.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة