الساعة الآن الثامنة والثلاثون. كان نومي متقطعاً، شعرتُ بأمّي ترفع الغطاء عن وجهي في الساعات الأولى، ويبدو أنّها مسحت بمنديل الصلاة العرق عن جبيني، وبسْملت. الممرضة جاءت في الساعة الخامسة، اطمأنّت إلى النبض، ووضعت ميزان الحرارة تحت لساني الجاف، وقالت وهي تظنّ أنّي أسمعها إن الطبيب أذِن لي بالخروج، وممارسة الحياة، فسمعتُ بنصف السمع فرح امرأة كانت تجفّف فاكهة ورديّة، وتغنّي أو هكذا سمعتْ، وهكذا رأيتُ أبي، أعطاني ورقة بيضاء، وألواناً حارة، وحقيبة مدرسيّة، وأخذني إلى معلّمة الموسيقا، وما انتظر عودتي، ومنذ ذلك وأنا أخشى نزول السلَّم، وارتخاء وتر في الكمنجة.
مشيت سبعاً وثلاثين ساعة خلال هذا النهار، وما زلت في منتصف الظهيرة. يبدو أنّي أعرف طريقي جيِّداً، فخلف هذه الكثبان المتحركة شجرة قصيرة، ووراء هذه المياه المالحة كوخ يكفي لتمدد الساقين. فكّرت كثيراً في مذاق ثمر الشجرة، أعرف طعم الدرّاق، والعنب، والتين، لكنّ هذا بالطبع لا يكفي، فأواصل المشي، وأرسم شكلاً هندسياً للكوخ متساوية زواياه، وقد جربت السُكنى في الطابق العاشر، وفوق الأرض عموماً، لكني إلى الآن لم أسترح، فهل مشيت كل هذه الساعات من أجل ثمرة وظل.. وأمشي فربّما تصادفني امرأة من الأدغال، وترافقني إلى الليل.. يقولون إنّ فيه التلاقي.
الحياة صمّاء من حولي، لكن الضجيج يحدث فقط في ذاكرتي: الحقيبة المدرسية على ظهري كصخرة بلال. أمي تفتح باب البيت الأرضي، ثم رائحة الثوم المقليّ والبامياء، والأرز الهندي، وغداء فوق أوراق جريدة تتحسّر على خسارة منتخب الكويت من العراق، وفي التلفزيون مغنّ مصري شاب يتطاير على المسرح كحبّات البُشار المحبوسة، وموجز الأنباء عن وساطات تبدو جادة لإنهاء الحرب في الشمال بين الجارين المسلمين.. طفل في الحيّ شتم الخميني في هتاف مُموْسق، فردَدْته وراءه، وفي المساء رأيت هزيمة في مسلسل عربي سُميت نكسة، والممثل صاحب الشارب الكثيف بكى. تأثرت لكني لم أبكِ، كنتُ مهموماً بأمر الحقيبة في الصباح التالي، وصخرة بلال التي على ظهري.
ليس في ساعتي وقت، وليس في البقيّة عُمْر، لكنّ الخاتمة لن تأتي إلا حين أقفل كلّ البدايات. والساعة الآن الثامنة والثلاثون بتوقيت منتصف العمر، وجدتها فرصة لأسقط هويّتي متعمّداً أثناء المشي، وأذهب إلى المبنى الحكومي المكتظ لإصدار أخرى بدلاً من المفقودة، وأستردّ من الدولة شخصاً لا أعرفه، لكنهم أعادوا لي اسمي الرباعي، والأرقام الفردية في تاريخ الميلاد، والصورة البلهاء للملامح الشاردة، ومكان الولادة الحارّ، واسم أمي الذي لا يخطئني، ومكسور أنا في منتصف المشي، كألف أمي كتبَها طفل في أول درس بعد اليُتم، ومرهق كراية فوق سطح مدرسة حكوميّة نائية، وما زال الوقت منتصف الظهيرة، ولا فاكهة في سلتي يا أبي، ولا أنتَ تقفُ على رأس السلّم المدرسيّ تنتظرني، إن انقطع في قدمي الوتر.