ذات صلة

العالم الثالث عشر

في هذا العالم لا بشر من النوع البسيط، ولا مستمعين صبورين، فالذين يمشون في أسواق السكر والملح، لهم آراء خاصة لا يشكل مجموعها رأياً عاماً، فكلّ ماش في اتجاه الريح، ومستهلك للبن عيران، وجالس كالبلادة في مقهى الضجر، له روايته الخاصة لأحداث 11 سبتمبر، ومن زاويته تنشأ دولة عظمى، وتفنى. كلّ الذين يشترون البضائع الصينية في العالم الثالث عشر يعرفون بيضة داعش، ومن باضها، ومن رقد عليها، وأخرجها من القشرة، ومن في نهاية العرض المشترك، سيأكلها.

إن مرضتَ، في العالم الثالث عشر، لا حاجة لك بنقابة الأطباء، والمستشفيات الرأسمالية، فالزائرة الفضولية إلى أمّكَ تعرف من صوت السّعال الاسم الشعبيّ لمرضكِ الرهيب، وتشخّصه على بعد كنباية مستطيلة، وتنطق اسمه العلميّ ناقصاً أو زائداً حرفين، ثم تعطي أمّك وصفة شفاهية متوفرة على الرفوف العليا من النملية: زعتر بري، بابونج، ومردقوش. وسيدة في منتصف الحكمة والخمسين، تحكي خبرتها مع الصداع المزمن، فهي تعالج رأس ابنتها الطريّ بقرصي بندول اكسترا في الليل، وبمواعيد نهارية إلى شيخ حافظ، ولا تذهب أبداً إلى الأطباء الذين يأتون بالسرطان.

جاري البائع في محلّ الأحذية النسائية، يعرف ما في الأكياس السوداء بيدي من فاكهة موسمية، وخضراوات رفيعة، وأيّها أفضل للإمساك، والتي تدرّ البول، يتبرّع في الإجابة عن أسئلة لا تهمّني إجاباتها، ويبلغني أن أخبر “الجماعة”، أي زوجتي الواحدة، المفردة، الوصفات الدقيقة لطهو لا ينزع الفائدة. وهذا الصباح أوقفني وكنت حاملاً طبق البيض البلديِّ البنيّ القشرة، وأثنى على حسن اختياري، بربتة خبيرة تغذية سمينة، وسلسل لي فوائده بحالاته الثلاث، وطلب مني أن أسأله عن آخر فائدة: “قلي ليش”، فقلتُها بابتسامة كصفار البيض.

والعلم، في العالم الثالث، لا يحتاج للسفر إلى الصين، فأمام كلّ سوبرماركت في الأحياء الضيّقة شاب نحيل غير مغتسل، منذ غزو العراق، يتنبأ بإضافات على اختراعات ناجزة، ولأن شاربي الصودا هم حلقة من الآذان الصاغية، والأفواه المفتوحة على الاحتمالات، تكون جملته طويلة يتخللها حين يتلعثم (اللهم صلي على سيدنا محمد) ثم تتكرر وتتصل بجملة أخرى منفصلة تماماً، تبدأ بـ “المهم”، تليها أسماء جديدة لأسماء الإشارة “شو اسمه”، “وهذا اللي”، ويهزّ شاربو الصودا رؤوسهم، ويثنون على حديث سقط معظمه عن طرف لسانه!

جولة ناقصة على محطات العالم الثالث عشر، وقراءة عشوائية لصحف مظللة بزيت الفلافل، تكفي أبو عارف، وهو سائق أجرة ثرثار ركبت معه من بيروت، إلى عمّان، ومررنا ببنغازي، واسترحنا بصلالة، ليحدّد الكرسيّ الذي سيسقط عنه بشار الأسد في قصر المهاجرين، وليخبرني بشكل حصري آخر تمتمات أسامة بن لادن قبل مقتله، والاسم غير الطبيِّ للسم الذي اغتيل به ياسر عرفات، والعقد النفسية التي كبر معها جورج دبليو بوش، وليؤكد لي حقيقة كافحتُ لإنكارها: صدام حسين حيّ يرزق بالمال والبنين!

ليس أبو عارف وحده، فكلّ السائقين العموميين في البلاد العربية على إيمان أقوى من أول الإيمان، أنّ القائد الضرورة والمهيب، والركن لم يمتْ، وأنّ الذي صعد إلى المقصلة فجر ذلك الأضحى هو شبيهه المخلِص. مؤمنون هم على اختلاف شركاتهم، وألوان سياراتهم، ووجهاتهم الأخيرة، أنّ أبو عدّاي موجود في هذه الساعة في جيب من جيوب المقاومة في الموصل، وأنّه تناول الأرز والدجاج المسلوق في تكريت هذا الصباح، ويتهيأ في أول فجر لعبور النهر إلى القصر. وكنت مضطراً لتصديق أبو عارف وزملائه حتى اقتنيت سيارة!

أسكنُ في العالم الثالث عشر، حيث لا بشر من النوع البسيط، والرميم يعود عظاماً، مكسوة باللحم، وتخطب في جموع الماشين في أسواق السكر والملح ضد عدو لا مرئي: فليخسأ الخاسئون!

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة