ذات صلة

أكتبُ وأكذبُ

مقطع قصير في أغنية طويلة، لو سمعته أثناء نومي في غيبوبة عميقة، لبكيت. اسم الأغنية “لا يا صديقي”، وصدرت أولاً في العراق في خريف العام المشؤوم 1990، لمغنيّها وملحّنها كاظم الساهر، وكاتبها عزيز الرسّام، وموضوعها صديق يخون صديقه، ويسرق منه حبيبته، فيطلق المسروق مناحة غنائية في طول ملحمي يقطع النفَس.

بعد صخب موسيقي وحنق الكلمات وانفعال الأداء، تتوقف كل الآلات عند الدقيقة الثالثة والثلاثين، ثانية لا أكثر، ثمّ يبدأ عزف كمانيّ، له ركن ثابت في حصين دماغي، ويأتي الكلام.. عاديُّ الكلام: “وانتي ياللي جنتي (كنتِ) في عيوني ملاك/ قلتي آنا عمري وعيوني فداك/ صوّرتي الدنيا من غيري أبد ما تعشين بيها/ وقلتي عنها ظلمة لكن نور وجهك مضوّيها/ وقلتي بليالي الشتا عيوني ما تاخذ نوم/ أفكر بيك.. بردان لو دافي وشابع نوم”.

فقط!

ومطالب أنا الآن أن أحدّد الأسباب التي جعلت من هذا المقطع الصغير له هذه المكانة، أن يُدمع عينيّ الاثنتين في غيبوبة عميقة. مطالب لأني كاتب، رغم أن هذه كذبة حياتي التي روّجتها في خمسة كتب، وما لا أعدّ ولا أُحصي من النصوص والمقالات، فقد كنتُ قليل الفائدة، ولا أصلح للوظائف التي تحتاج العقل مع إعماله، فكتبتُ وكذبتُ وقد انكشفت الكذبة الآن، إذ أعجز عن تفسير لماذا أحبُّ مقطعاً قصيراً في أغنية طويلة.  

سأكتب وأكذب. يقول عزيز إن كاظم طلب منه في نهاية الثمانينيات أغنية طويلة، ويقول كاظم إن قصّتها حقيقية (أحدهما كاذب) رغم أنّ الرسّام أكّد أنه احتار في اختيار موضوع يحتمل ساعة غنائية، ولما أمسك بمطلع الأغنية، طلب من الساهر أن يفتعل عراكاً مع زوجته، ليتسنى لهما الذهاب إلى الفندق وإكمال الكتابة واللحن. استعصى المقطع الذي سيدمعني في غيبوبتي على التلحين، ولما أنجزه كاظم خلع قميصه ولوّح به وهو “يهوّس”.

لكني أغرمت بهذا المقطع قبل أن أعرف أنه استعصى على كاظم في اللحن، ولما أنجزه أخذ “يهوّس”، و”الهوسة” كلمة عراقية تعني الغناء بصوت عال، ولها استعمالات أخرى منها مثلاً الإشارة إلى الفوضى والصخب عند الجيران أو المبالغة بالفرح. ما زلتُ أكتب وأكذب، فربّما أحببتُ المقطع لأنه كان آخر تعاون بين الرسام والساهر قبل انفصالهما الفنيّ، فالأول اشترط على الثاني نسبة من الأرباح ووضع صورته على أغلفة شرائط الكاسيت، فانتهيا إلى التراشق بالأغاني.

نعم فقد كتب عزيز أغنية يشكو فيها نكران الساهر لأفضاله وهو الذي عبر معه الشط وطارد الغزالة، فردّ الساهر بكتابة وتلحين أغنية قاسية الكلمات اسمها “لا تحتج يا جاهل”، وهي أغنية ملعونة اجتهد المجتهدون في تفسيرها، حتى إن شاعراً صرّح مؤخراً أن الأغنية كتبتها القيادة القطرية في حزب البعث (لا أكذب ربّما بالغتُ في موضوع القيادة القطرية) رداّ على انتفاضة 1991 التي تسميها المعارضة بـ “الشعبانية”، والقيادة بـ “صفحة الغدر والخيانة”، فأوكلتْ إلى كاظم الساهر مهمة تأديب المنتفضين والجاهلين!

يبدو أني أراوغ، فأكتبُ وأكذب لأني عاجز عن تفسير افتتاني بمقطع صغير في أغنية طويلة، لأسهب في موضوع عزيز وكاظم، الذي تطوّر حدّ أن عديّ صدّام حسين قد استدعى عزيزاً، وتوعّده إن “جاب طاري كاظم”، وسرديات أخرى رواها عزيز ويده على القرآن، وظل يلوكها من من سنة إلى عام، ومن تلفزيون إلى إذاعة، حتى اشترى له الساهر بيتاً، فسكتَ ولم نعرف من منهما الكاذب.   

لربّما أحببت المقطع القصير لأنه في أغنية طويلة صدرت في ظرف من الظروف الدقيقة التي غالباً ما تمرُّ بها المنطقة، فقد ذهب الساهر صيف العام 1990 إلى القاهرة لتسجيلها، وسكن في شقة المطرب الكويتي عبد الله رويشد، قبل انقطاع صداقتهما بعد الغزو العراقيّ. وهناك نُقلت أحاديث عن عظمة اللحن المركّب والتنوّع المقاميّ فيه، ويقول الساهر إن أعضاء الفرقة الماسية الشهيرة كانوا يرسلون له القبلات الهوائية أثناء التسجيل، فيما بالغ مريدو كاظم بالقول إنّ الموسيقار محمد عبد الوهاب “جُنّ” باللحن “العبقري” وهي معلومة ضعيفة لم يذكرها الساهر كاذباً أو صادقاً!

إذاً هل يمكنني القول إن اللحن المركّب والتنوّع المقاميّ هو الذي أدى إلى كلّ هذا الحب. لكن هذا سيتطلّب أن أذهب إلى غوغل، وأضيف معلومات من اليمين إلى اليسار، فأصير أضحوكة عند أتباع زياد الرحباني. أو أزعم أني أحببتُ المقطع القصير لخيانة تعرّضتُ لها في حبٍّ سابق، ونسيت أن أقول إن الحب هو الكذبة الثانية في حياتي، وإن توفّر ما يشبه الحب فقد كنتُ الطرف الخائن. يبدو أني تورّطت، فكتبت وكذبت، وطالما الأمر كذلك لماذا لا أحيله إلى الشتاء والحنين، خصوصاً أن أول مرة استمعتُ فيها إلى الأغنية تزامنت مع ثلجة 1992، وهذا مَخرج نوستاليجي.     

ولماذا عليّ أن أكتبَ وأكذبَ، ففي الغيبوبة سيقول الدمع كلّ شيء.  

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة