كانت حادثة قريبة، منذ أسابيع قليلة على وجه التحديد، لكنّي أجزم أني لن أتصرّف في حياتي المقبلة على ذلك النحو الأرعن الذي كنتُ عليه حين داهمنا الشتاء مبكراً. ذكَّرتني حبّات المطر بحاجتي إلى معطف من الجلد الرقيق، فهاتفتُ امرأة لم تبخل عليّ يوماً بدفء قلبها. قلتُ لها: “إنّي أحتاجك اليوم تحديداً”.
كنتُ على ثقة أنها ستلبّي حاجتي لرؤيتها، حتى وإنْ كان آخر لقاء بيننا قبل شتاء كاذب، كُنّا نعيش حكايات مستترة كأنَّها فوق الغيم، نراقبُ عن بعد هروب الناس، واختباءها تحت “الآرمات” المضيئة، وكانت هي تركضُ إلى قلبي تدخله محتمية حتى يهبط الليل، ونجلسُ ساعات في برد، هو شديد الدفء في كفيها.. وكان من المفترض أن نلتقي في شتاء آخر؛ لكن الصيف أخذني منها عامين.
واليوم أحتاجُها مثل أرض عطشى، ولا تتأخر، تردّ على مكالمتي قبل أنْ يكتمل خيط الرنين الأول، وتمنحني موعداً سريعاً قبل أن يبتلّ شعري، لكنَّها تقول جملة معترضة تزيدُ من رعش قلبي، حين تخبرني أنها ستمرّ إلى الصيدلية لابتياع دواء مخفف لأعراض الإنفلونزا. وتضحك: “أريدُ لقاءك بكامل لياقتي النفسية، ومن حُسْن حظكَ أنَّ صوتي مُتعَبٌ من أعراض الرشح.. تماماً كما تحبّه”.
ينتابني قلق يدفعني إلى أنْ أركن سيارتي جانباً لأبتدع حيلة تجنّبني لقاءها، وتضمن لي حياتي، فقد جنح خيالي، وازداد اتساعاً بفعل النشرات التحذيرية على سبيل الوقاية من أنواع فتّاكة للإنفلونزا المكتسبة من حيوانات في غاية التهذيب.
وبسرعة القلق اهتديتُ إلى حيلة متوسطة الإقناع، تحتاجُ فقط لأن أقولها بثبات حتى تبدو شديدة الترابط. أخبرتها أني نسيتُ أمراً بالغ الأهمية، ذكّرتها أني كنتُ قد وعدتها، قبل شتاءين، أنْ أشبك كفَّها بكفي بمحبَس ذهبيّ، وأقسمتُ لها ألا أراها حتى أستكمل شجاعتي وأمرّ على محل للصاغة لابتياع محبسين ذهبيين، ولأن الشتاء حقيقي هذا اليوم، اقترحتُ عليها أن نؤجل الموعد وتستمر هي بمشوارها إلى الصيدلية، بل نصحتها أنْ تأخذ أمر الإنفلونزا على محمل الجِدْ… ولم تدرك ما أعني لحسن حظي.
جلستُ والأمطار تزحف كقطيع رخوي على زجاج السيارة، هطلَ المطر أكثر مما عهدته كأنه يريد محو كذبه السابق، وهو يخيفني كالعقاب الذي ينتظرني خلف الباب، فلم أجرؤ على النزول إلى الشارع عشر خطوات حتى أصل تحت آرمة محل الذهب الأبيض، خشيتُ أن أذوب وأستحيل قطرة في مجرى سيل لأنتهي في مصرف صحي رديء الحماية.
هاتفتها مُجدَّداً، لما تنامى قلقي، وسألتها بمكر كبار السن المكشوف: “كيف هي حرارتكِ”؟!
سكتُّ برهة قصيرة لتروح عيني على خبر مقتضب في الصحيفة قربي عن حالة وفاة بالإنفلونزا، فتتبَّعت بعينين مضطربتين الفقرات حتى وصلتُ إلى الأخيرة التي تتضمّن أعراض المرض القاتل، وتابعتُ بتوتر أربكها: “هل تقيأتِ وهل…”، ولخجلي الشديد أحجمتُ عن متابعة السؤال الأخير، ولم تدرك ما أعني لحسن حظي.
أنهيتُ المكالمة، وبلغتْ أنانيتي ذروتها؛ فأنا أحتاجها وينبغي أن أراها، وهي مصابة بإنفلونزا مجهولة المصدر، لذلك قررتُ بوقاحة شديدة أنْ أتخذ إجراء وقائياً بالتطعيم، الأمر الذي يُمكنني من العبث بحريرها مطمئناً، وإنْ كنتُ محتقراً نفسي، لكنها على كل حال لا تدركُ ذلك، فجرى اللقاء وسط إجراءاتي الدقيقة ونواياي القليلة الشأن.
كانت دافئة، وبمجرد أن تنفستْ أنفاسها المحمومة اشتعلَ قلبي، وجفَّ الماء على ذراعي ووجهي وظهري، اقتربتُ منها أكثر، لوهلة تجاسرتُ ورحتُ أستجدي منها العدوى.
سألتني: “تريد أن تمرض”؟
باغتها بفرح شديد: “وهل الإصابة بالحرير مرض”؟!
ضحكتْ بصوتها المتعب الذي أحبّ،
.. وسألتني كما توقعتُ: “أين المحبسان”؟
ارتبكتُ. ثم قلتُ بحيلة لم أعرفها من قبل: “دعيني أولاً أخرجُ حياً من عدواكِ”!