ذات صلة

نسخة 26 نوفمبر من بشار الأسد

عندما ثار السوريون في آذار ضدّ بشار الأسد، كنتُ في الثلاثين، قميصي أبيض وشَعري أسود، قدمي اليمنى تهتزُّ كأني أجلسُ فوق الريح، قليل الصبر كنت، وكفي ثابتة على إشارة حادة تعني كُنْ لما سيكون، لكن الأسد لم يسقط في نيسان ولا أيّ نيسان. لم تذكر نشرات الأخبار أسماء القتلى، اكتفت بأرقامهم وأسباب موتهم بالرصاص النزق، أو البراميل الغبية، والغاز الحرام. “لا بدّ أن يسقط”، قال كاتب عربي لا يُصدَّقْ، لكنّي كنتُ مضطراً، فقدمي تهتز، وكفّي ثابتة، والأسد لا تعرف إن كان ذاهباً أم عائداً من الأبد.

فعلتُ أشياء مفيدة خلال أربعة عشر عاماً، فما كان وقتي كله مكرّساً للعنة على الشمع والظلام وبشار الأسد. أحببتُ نساء الشام، كتبتُ قصصاً كئيبة، عرفتُ أطعمة جديدة تناسب النبيذ الأحمر، وتأمّلتْ. تأمّلتُ دولاً تعود إلى طبيعتها عند الدرجة ثلاثمائة وستين، ووزراء خارجيّة يلحسون الصدق الوحيد الذي نطقوه. تأمّلت الكاتب العربيّ الذي لا يصدّق، قال إن المستقبل للأسد، اضطررت لتصديقه، فقد رأيتُ “بشّار” يمشي على سجادة حمراء من دم دوما، ويجلس مثل عصا المكنسة القابلة للطيّ خلف اسم سوريّة وعلمها في قمّة منخفضة، سمعته يخطبُ عن “العدوّ المجرم”، ذاكراً الموبقات التي ارتكبها هذا العدوّ، وما كان غاضباً، كان يبدو حريصاً فقط على براءة الاختراع.

فعلتُ أشياء أخرى، أحببتُ نساء الشام، عدّلتُ نهايات القصص، انحزتُ للنبيذ الأبيض وأطعِمته، وتأمّلتْ. تأمّلتُ الإنسان الذي يحبُّ بشار الأسد، لا خوفاً من كيماويّه ولا طمعاً في ماله المنهوب. أحبّه لأنه وجده أهلاً للحبّ. وهذا الإنسان ينشط غرب سورية وشرقها، وفي جنوبها، وجنوبها الغربي. قد يكون طبيب أسنان، أو مهندساً مدنياً، أو شاعر تفعيلة، قد يكون يسارياً يترقّب قيامة ستالين، أو متديِّناً ينتظر نبياً، أو ربما هو أبله مثل “البركة”. تأمّلتُ هذا الإنسان، فوجدته زوجاً وأباً وعمّاً وخالاً وله أقرباء وأنسباء أعدادهم مكتملة. يكتب “الإنسان” على صفحته أنّ على الأرض ما يستحق الحياة، ولا يعنيه أن تحت الأرض سجن صيدنايا.  

فعلتُ أشياء أقل، أحببتُ نساء الشام، حذفتُ بعض القصص، عرفتُ الفوائد المختلفة للأبيض والأحمر من النبيذ، لكنّ الطبيبّ أكد لي أن المضار واحدة، وهذا يعني أني كبرت، وقميصي صار أسود، وشَعري يبدو أبيض، قدمي اليمنى لم تعد تشعر بالريح، وكفّي يهمها الدفء، وتقليب المحطات على التلفزيون، فهذا بشار الأسد يخرج من مغسلة السيارات، ويبدو لامعاً، وقد تم طلاء الأجزاء المخدوشة من شخصيته، نعم لقد شعرتُ بالهزيمة، واعترفتُ أنا في السادس والعشرين من نوفمبر، باللاتيني، وتشرين الثاني، بالآشوري، من عام ألفين وأربعة وعشرين، أن لدى بشار الأسد شخصية.

 انتصر بشار الأسد على حلب بشرقها وغربها، أعاد حِمص إلى طاعته وجرّد الثورة من عاصمتها، حوّل دمشق إلى أوراق نقدية خضراء في محفظته، وواصل طيّ الساحل تحت إبطه الحليق، ثمّ ذهب إلى القمم المنخفضة محاضراً عن الشرف، ومعرّفاً البطولة والفداء. بعد العناق العربيّ الحار، تقدّمت إيطاليا للسلام عليه، وجلست ألمانيا في غرفة الانتظار، وقيل أن أمريكا ستنشئ قاعدة جديدة في سوريا هي “عفا الله عما سلف”. لم يكتف، ماذا يفعل بشار الأسد ليؤكد انتصاره المؤكد، يرفض شرب العصائر الباردة مع نظيره التركي، ويضحك مثل أبله تنقصه “البركة”.

انتصر بشار الأسد على أطفال الغوطة وداريّا والحولة وخان شيخون، وشوهدت صورته على الدمار الرّماديّ، وتحققت العبارة الإباديّة “الأسد أو نحرق البلد”. انتصر نعم، لكن مهلاً، بشار الأسد هو المنتصر الوحيد الذي هزمه انتصاره.  

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة