ذات صلة

المغتصبون

ينامون بلا قلق من أن ينتهي الحلم في منتصف الحلم كابوساً: سقوط فادح في نوم منتصف الظهيرة من برج قيد العلوّ في المدينة، السباحة مع التيار في النهر الدافئ عصراً ثمّ الخروج عارياً على شاطئ أجرد، توقف القدم اليسرى في منتصف الليل عن المسير على سكة قطار أعمى، أو صحو الضحية، قبل الفجر أو بعده بليال عشر، من نومها على ألمها.

“المغتصبون” دمعهم ماء جوفيّ ملوّن، بارد، بلا ضرورة، ذكرياتهم صفحتان يابستان من كتب الطغاة، أسماؤهم هي في شهادة الميلاد واضحة، بريئة، من مقاطع مكتملة كما تكون أسماء الضحايا، وفي شهادة الوفاة مركّبة، نسبيّة الوضوح كما هو دائماً تقدير أعداد الضحايا، غامضون هم كالخبر الأول للجريمة، وواضحون مثل انتشارها.

 قد يمشون بيننا في الأسواق الشعبية الضيّقة، ويشترون مثلنا تماماً الخضار البلديّ لوجبة العشاء، ومشروبات شهر رمضان المباركة قبل أن يحين شعبان، قد يبتسمون لـ “السائل والمحروم”، ويذبحون برفق أضحية العيد في موعدها من السُنّة، يتأثرون كما نتأثر نحن لموت عبد الله غيث في السينما، ولشهيد مات برصاص شديد الحياة قبل اختلاف الناس على صكوك الشهادة.

هم المغتصبون يظهرون بيننا نهاراً، ويبدون كأنّهم مثلنا، حتى تنتهي في قلوبهم صلاحية الدم. وهم الذين لا يشكون وجعاً غامضاً في الضمير إذا ضاق الليل بليلتين وبالصورة الأخيرة للضحية، ولا يسهرون على طيّ ألم يطرأ إذا تململ التأنيب في الرأس الثقيلة خشية أن يهوي في منتصف الحلم سقوطاً من برج قيد العلوّ. المغتصبون هم، وإن أعطيتهم اسماً آخر لكائنات أخرى، وصفة غليظة تتبعُ الموصوف في قبحه الطبيعيّ، تكون قد تورّطت كثيراً في العبث، وخلطت بين الطبيعة وما قبلها أو بعدها.

مغتصبو الطفلات على أول عتبات النهار، والفتيات الطالعات إلى الشمس في حقل الحنطة العالي، والطالبات المستعينات بـ آية الكرسيِّ على عتمة الصبح، والعاملات المنتظرات باص المصنع آخر طريق التعب، والأمهات اللواتي وعدن أطفالهنّ بالعودة قبل أزمة السير على طرق النجاة، والسيّدات، الآنسات الحالمات برجال لائقين لأدوار الآباء الأشداء، ومغتصبو الأطفال المغادرين أول العتبات، والفتيان الذين يستعجلون خشونة الذقن، والرجال، الرجال في أشدّ القهر وأظلم السجن. المغتصبون الذين يُسكرهم ألم الضحية في نومها، ليسوا صُلبَ آدم ولا حدقة خضراء لحواء، ولا إخوة غير أشقاء للآدميين.

 ومغتصبو أرض كانت لفلاح يصل سنابل القمح بخيوط الشمس، وبيت صغير تسكنه جدّة عمشاء وابن شهيد الحرب الخاسرة، وراتب لعائلة طويلة كالألم بكامل أسمائه المستعارة، وحق ضاع بهتك عرض الضحية بالتراضي بين البائع والمشتري، وقرية كانت تطلّ على لغز ما وكان حله أن تندثر حكايتها، ويقبل الراوي بموت مبكر، ويصعد “مول” وأبراج من ماء الغسيل. المغتصبون، الغاصبون الذين ذكرياتهم صفحتان يابستان من كتب الطغاة، يقتلون القرية في المرأة، والوطن في الرجل.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة