أحدّقُ في أيّام العمر التي ذهبتْ، كما يذهبُ وقتُ الفراغ. أشعرُ بالخجل الذي يبلّلُ الجبين، لا أخفي ذلك، بل يمكنني الاعتراف الآن، بعد أن ذهبَ من العمر الذَّهب، أنّ العار يلاحقني إلى النوم كلّ مساء، عندما أضعُ رأسي الخالي على الوسادة الممتلئة بريش النعام، أؤنّبُ نفسي التي لم تأمرني مرة واحدة بالسوء، ولم تشجعني كزوجة الأب على فعل ما يخدش الحياء العام. عمْرٌ مكتمل البياض، لم تستدعني فيه الشرطة بعد إلى مخفر الحيّ، كلّ ما اقترفته من ذنوب اقتضى تنويهاً مؤدّباً من رقيب السير، أنّ عليّ زيادة السرعة على الطريق السريع.
هكذا مشيتُ العُمْر بتؤدة، بجانب الحيطان العالية، أنتظرُ مرور السيارات حتى أتجرّأ على قطع الشارع، وإنْ فعلتُ ذلك بعد تردّد طويلٍ أمدّ يدي للسائق المتهوّر مستعطفاً، ثمّ أواصل المشي المكسور حتى أبلغ الرصيف. هناك أعيدُ استكمال البحث عن الجدران الاستنادية، وأولاد الحلال الذين يُفترضُ أنَّهم استجابوا، بمروءة أفتقدها، لدعاء أمّي بالظهور تباعاً في طريقي: العطارُ الذي يعطيني بجرعات زائدة وصفات إطالة العمر، والطبيبُ الذي يعملُ بالأسباب، والمحامي الذي يلقنني الكلام الذي لا يغضبُ الناس، وظلاَّن خفيّان يرافقانني برجاء صريحٍ من أمّي: “كونا مع الولد الحبيب”.
كنتُ ولداً أخاف الله، وكانت السيّئات تُمحى كلّ مساء، لكنَّي لم أسرق حمضيّات العجوز الشقراء، عندما ماتت حسرة على الشجرة التي قتلها المبيدُ الأبيض، وعندما غافلتُ البائع الصعيدي على رأس الخليج العربي، وأخفيتُ بكمي الصوفيّ “علكة النعناع”، غافلته، بالخفة ذاتها، مرة أخرى وأعدتُها. ولما كنتُ فتى وكانت الذنوبُ طريّة لم أكذب على أمّي: اعترفتُ بأني وقعتُ في الحبّ، وكان يمكنني النجاة وأزعم أنّ الأمر مجرد لطف زائد، وصارحتُ أبي بأني دخَّنْتُ سيجارة واحدة لم تعجبني، لكنّ الصدق لم ينجّني من العقاب الأبويّ. كنتُ شاباً؛ لكنَّي شبتُ مبكراً على الخوف.
تجنَّبتُ الشرّ وأطلقتُ صوتي القبيح بالغناء له، فليس في وجهي علامة غليظة لأثر “موس كبّاس”، ولا خدش في ساعدي الأيمن، ولا أثر رصاصة في ساقي البدينة، ومنْ سيطلقُ عليّ النار، إذا كنتُ قد شهدتُ الحروب مسلسلة على “يوتيوب”، وخرجتُ هارباً من طابور تعلُّم الرماية في الجيش الشعبيّ، وأعطيتُ دوري لطالب غيور أراد تكرار المغامرة: هكذا عشتُ وهناً على وهن، لم أخض تجربة واحدة خارج “جلباب أبي”: أربعة عقود لم أوقّع بضميرٍ مسترخٍ على شيك نفد رصيده، لم أخن امرأتي كما يفترضُ أنْ يخون الرجالُ، ما عدتُ إلى البيت متأخِّراً، مترنِّحاً على كتف صديق أسوأ من السوء. تربّيتُ عند أبٍ ستالينيّ تربية صارمة، لن أتقنها على ولدي إنْ جاء، فقد جَعَلتْني تربية أبي أكثر مسالمة من ملك السويد.
اقتربتُ من النهاية، ولا بدّ للبداية في عُمْرٍ ما أن تنتهي ولو كره العطارُ، وما زلتُ نظيفاً مثل سرير طفل مات في حلم أمّه، أقفُ احتراماً للكبير، وأردّ التحية من أربعة مقاطع، ثم أضع يدي على صدري للمبالغة في التقدير، ألتزم بنصائح الذين اقتربوا من حُسْن الختام، وأطبّقُ في مناسبات الفرح والحزن طقوسَ أبي في التأثر والتأثير. اقتربتُ من النهاية، وذهبَ العمر كما يذهب وقتُ الفراغ، وكلُّ ما فعلته أنَّي انتقلتُ بحذر بالغ، من الشمس إلى الظلّ.