قبل دخولهم أرض غزة، ينشر جنودهم صوراً بابتسامات مستفزة، يتوعّدون بأسنان مُجمّلة قد لا تحتمل آخر الغضب. يدخلون أمتاراً، عشرات أو مئات، يحرقون طعاماً في بقالة، ألعاباً وقرطاسية في مكتبة، يعبثون بملابس نسائية، يلتقطون سيلفي أمام بحرنا. إنهم يتصرفون مثل منتصرين، لا بأس. أما بعد، يُشحنون على نقالات وكراسٍ متحركة في مروحيات، تُجمع أطرافهم في أكياس سوداء متعددة الأغراض، يُجري إعلامهم لقاء مع جندي ليفهموا ما جرى بعد ابتسامة هوليوود، وسيلفي البحر، فيقول أفيخاي ليفي: أبول على نفسي في الليل من الخوف.
إذاً فهم يقعون في الكمائن مثل الذباب والحشرات عديمة الفائدة، ليضحك يوسف، ويُفتن بشَعره “الكيرلي” أكثر، وهم يحترقون مثل الشوك في دباباتهم، فيتنهد المذيع المُتعَبْ: “معلش”، يُقتلون على بُعد صفر أو أقل، فيجيء الابن الشهيد لأمّه في منامها الأول، يصابون بالعمى، وشيء من الصمم، فيأكلُ الأولاد العشاء الذي فاتهم لما استعجلتهم الغارة، يتأخرون قليلاً بـ “النفوق”، تتعذّبُ بالصعود أرواحهم، فتعود للجدِّ روحه، وروح روحه، يصابون بانسدادات في المسالك البولية، وتنخفض فرصهم في الإنجاب، فتكتمل ضحكة الخُدج، ويستكملون الحياة شهداء.
يطربني صوت مذيعهم الخشن المشروخ بالخاء، معلناً أرقام قتلاهم، أكثر من صوت فيروز وهي تحث الهوى على الرجوع. أحبُّ أرقام الإصابات في صفوفهم، أكثر مما أحبُّ الأصفار على يمين حسابي البنكي. أفضّلُ أن أستمع إلى تفاصيل إصاباتهم، أكثر من أن تعدّ سيدة شاماتها.. حروق في الوجه، تسلخات من طول الإقامة في الميركافا، أطراف مقطوعة، عمى، واكتئاب ما بعد الولادة. هل أشمت.. لا هي أكثر من شماتة، وأقل من ثأر. ولأستعيدني أفتح يوتيوب، أكتب في صندوق البحث: كيف كان محمود درويش يصنع قهوته.
انزلوا من سمائنا إلى أرضنا، اقتربوا من النقطة صفر. أعرفُ أني أقول كلاماً عربياً قديماً لا يصلح للحروب الحديثة، الموجهة والحرة، كلاماً لا يصلح للحوار مع قنابلكم الذكية. انزلوا من سمائنا، أعرفُ أنكم لا تفهمون الحِكم وقد لا تصدقون أن أي طائر مهما ارتفع لا بد أن يقع. انتشروا في حاراتنا راجلين أو محصّنين، امشوا في حقولنا، اغرفوا طعاماً من مطابخنا، سددوا أسلحتكم نحو الكائنات المرسومة على أسرّة أطفالنا، ثمّ تعالوا إلى حرب رجل إلى رجل، وتذكّروا أن الموت بالطريقة التي كنتم تقتلوننا فيها، هو أعدل ما سيحدث لكم.
التقطوا ما شئتم من الصور في غزة، مبتسمين وضاحكين وساخرين، أما بعد، حين تُشحنون على نقالات وكراسٍ متحركة في مروحيات، لا تنسوا التقاط صور في مراكز ترميم العظام، وابتسموا للكاميرا من وراء ضمادات الحروق، ومن كان منكم قادراً على المشي بساق واحدة أن يذهب للسلام على زميله المقعد في الغرفة المجاورة. هناك صور أخرى يحتاجها “أدريناليننا” في مراكز التأهيل النفسي، وعيادات مستحدثة لعلاج التبول اللاإرادي. التقطوا ما شئتم من الصور، وتذكّروا جيداً أن كلّ حرب لها صورة واحدة، وهذه الحرب كانت صورتها مقاتل منا يجرُّ جندياً منكم.