ذات صلة

السابع من أكتوبر

ولدنا بعد النكبة بعقود، وسنموت بعد النكبة بقرن.

شاهدتُ فلسطين بوعي عند بلوغي الثامنة، أجبرتُ على خلع كلّ ملابسي على جسر اللنبي حتى تتأكد الجندية الحنطية أني لا أحملُ تحت ثيابي الصيفية سلاحاً أبيض أو أسود. مشتْ بنا سيارة المرسيدس التعيسة؛ إذن فأشجار الموز والتين والزيتون على جانبي الطريق من أريحا إلى رام الله ثم إلى رنتيس، والشمس المختلفة والإسفلت المتشقق، وأعمدة الكهرباء التي تعمل بنصف طاقتها، وبائع الفلافل، والسائق وبطولاته التي يمكن تصديقها، وكلّ شيء أراه أو أشمه، اسمه هنا فلسطين، وهي كلها التي تحت سيطرة الجندية التي جرّدتني من ثيابي.

سنغادر فلسطين بعد شهرين مع سائق آخر، لديه بطولات أخرى، عبر الجسر وتحت نظر الجندية. بعد عام واحد ستندلع انتفاضة يرمي فيها أطفال في التاسعة الحجارة على رفاق الجندية التي جرّدتني من ثيابي. اعتقدتُ أن تحرير فلسطين مسألة أشهر، فكلُّ ما رأيته في زيارتي القصيرة من احتلال، جنود قصار القامة ليس لديهم ما لدى أي سائق عمومي من بطولات. لكني في الأشهر التي ظننتُ أنها كافية للتحرير، عرفتُ أنه مرّ على هذا الاحتلال أربعون عاماً، وأن الذين يبكون على مشاهد كسر الجنود لأيدي الشبان، كانوا يظنون أن تحرير فلسطين مسألة أيام.

أربع سنوات سأقرأ فيها عن دير ياسين، واللد والطنطورة، وأشاهد مذبحة كفر قاسم بالألوان. سأعرفُ أننا هزمنا في كلّ الحروب التي خضناها أمام الجنود قصار القامة، وسأعرف أن الاحتلال وراءه احتلال آخر.. أمريكا التي يصفها المغنّي برأس الحيّة والشاعر بالطاعون. وفي أمريكا شاهدت الرجل الكهل بلباسه العسكريّ يصافح المحتلّ قصير القامة، وفهمنا من ذلك أننا اكتفينا من قوام فلسطين بخصرها، أما تحرير باقي القوام فقد تُرك للأجيال القادمة، شريطة ظهور غير متوقع لرجل اسمه صلاح الدين الأيوبي.. هذا ما قاله أستاذ التاريخ والجغرافيا الذي مثل جميع “الأساتذة”.. يعرف كل شيء.

انتفاضة أخرى، ومجازر مسموعة ومرئية على الهواء، من أجل تحرير خصر فلسطين. يئستُ وأنا في الثانية والعشرين من اثنين وعشرين جيشاً، وسلّمتُ رأسي لأئمة الجوامع الذين تنبأوا بزوال إسرائيل بعمليات حسابية، فيطرحون ويجمعون ويكون الحاصل إما في عام ألفين واثنين وعشرين أو سبعة وعشرين، وعشتُ لأني مثل أي رعديد تجنّبتُ الحياة في جنين وغزة، حتى تجاوزت العقد الرابع، صرتُ مثل رجل محكوم بالموت لا محالة، لن يرى ابنه سوى عبر “السونار”. مرّ عام ألفين واثنين وعشرين، وأشهر من ثلاثة وعشرين حتى جاء “الطوفان” من قبلي.

ولدنا بعد النكبة بعقود، وسنموت بعد النكبة بقرن، والله يعلم أيضاً أني لن أشهد يوم تحرير فلسطين، لكني شاهدتُ في السابع من أكتوبر فيلماً من المستقبل عن تحريرها. شاهدتُ المحتلين قصار القامة يفرون، وآمنتُ أن مقابل دير ياسين وكفر قاسم ينبغي أن تكون سيدروت وأفشالوم، وسمعتُ المذيع يقول إن القوات الفلسطينية “احتلت”، وهناك من كان يناشدنا بضبط النفس. عشتُ حتى رأيتُ مسنة محتلة، ترى مقاتلنا يعفو عنها. المسنة التي كانت شابة في الهاجاناه، عاشت حتى رأتْ فيلماً قصيراً من المستقبل عن “نكبتها”.

والسابع من أكتوبر بعد عقود أو قرن، سيكون لنا ذكرى “القيام” ولهم “النكبة”.

..

وسأكتبُ للتاريخ والجغرافيا، أنّي في السابع من أكتوبر من عام ألفين وثلاثة وعشرين، ارتديتُ ملابسي.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة