في طفولتي الكبيرة كنتُ سعيداً لأنّ اسمي يبدأ بحرف النون، فقد كان الوقتُ يدرك المعلمات والمعلمين قبل أن يصلوا إلى اسمي في نهاية قائمة أسماء الطلاب، فأنجو مع هاني ويحيى أو هنادي وياسمين، من تسميع سورة “يس”، ومن الإجابة الفورية بلا أي تلكؤ عن حاصل ضرب كلّ الأرقام في الرقم أربعة. كنتُ أضحكُ في عبّي مثل شيطان صغير حين يدق الجرس قبل أن يبلغني السؤال التعجيزي عن التفريق بين الجماد الذي لا يأكل والكائن الحي الذي يشرب. نجوتُ حتى من الوقوف الأبله لإنشاد قصائد مليئة بحِكم لا نفع فيها ولا ضرر.
كان قبل أن يصل المعلم إلى اسمي يمرُّ بعشرة طلاب، أكثرهم أحمد وأقلهم إبراهيم وآخرهم أيهم، ولا بدّ من وقوف قصير عند طالب توسم أهله فيه الظرف والحسن فأسموه بهاء، وبالمناسبة كان من الضروريّ أيضاً أن يكون هناك حسن، فهو اسم شائع في الأحياء مثل رائحة البامياء والثوم في الواحدة بعد الظهر. ولأننا جيل الثمانينيات فمن “الضرورة” أن يكون هناك توقفاً اضطرارياً عند حرف الصاد، حيث يجلس ولد عابس يبحث عن هيبة، اسمه صدام. ينشف ريقُ المعلم في حرف الميم المجهور، فهناك ماجد وماهر ومحمد ومحمود ومصطفى، لتستمر صلاتي أن يُدق الجرس!
ما زلتُ طفلاً كبيراً، كان هذا في العام الثاني من التسعينيات البعيدة. داهمني قلق وجودي مبكر كما “يشيبُ الولدان”، كنت كئيباً وأشتري الهمّ بعيني اليسرى. كانت المعلومة الأكيدة “كلنا سنموت”. إذاً لا مفرّ، لكنّ خيالي الشيطاني الصغير دس في رأسي على الوسادة الزرقاء فكرة، وفي السادسة صباحاً استفاقت معي أمنية، وفي الطريق المتقلب بين صعود ونزول إلى المدرسة المهترئة، صارت من سنن الحياة. في الصفِّ نادى المعلم: إبراهيم، أحمد، أيهم.. والمقاعد تفرغ من حولي، وهكذا تأكدت بفم ضاحك ناقص الأسنان، بأن سيموت قبلي كل الساكنين في حرف السين والواقفين في حرف الألف، وأنا جالس في حرف النون.. الحرف الذي له شكل الغواية، والهلال، وكرسي النساء أمام البحر.
ثلاثون عاماً مرّت كما يمرُّ الضوء أمام العين، ومن عيني اليمني لا أرى الآن إلا النصف الفارغ من الكأس، فالنصف الملآن شربته. قبل أن أنام على الوسادة الزرقاء، أتمنى أن يكون أحمد قد نجا من زلزال القاهرة، ومحمد من الانتفاضة الثانية، وحسن من غزو العراق، وصدام من ليلة الأضحى. أكتب الآن من طفولتي الصغيرة في الرابعة والنصف: يا أيها المعلمون، يا أيتها المعلمات، لماذا لا تبدأون النداء من أسفل القائمة.. أنا مستعد وجالس على طرف الهلال وكرسيّ النساء أمام البحر، فهذا العمر زائد عن حاجتي، ولا قلق وجودياً في رأسي الرمادية، كل ما أريده شامة تقتلني، لا أن أموت مثل أغنية لا يطلبها الجمهور.