جرّبتُ كلّ الكوابيس التي تستدرّ البول، حلمتُ أنّي أتزوّج وأشارك في وظيفة اجتماعيّة إلزاميّة وهي طهور “زهدي”، أو أن إدارة الامتحانات والاختبارات استدعتني وأنا في نهايات الثلاثين لإعادة امتحان الثانوية العامة، أو أنّي، وهذا تكرّر كثيراً، أركض عارياً وسط شارع خالٍ، ويداي عاجزتان عن ستر عورتي. لكنّ الكابوس الذي كان يصيبني بالدوار، ورُهاب النوم، وأعراض القولون العصبي، هو أنني محتجز في “النظارة” أو “التخشيبة” أو أيِّ سجن ناطق بالعربيّة.
كنتُ أفيقُ مثل القادم من الموت، أتفقد أعضائي وأطرافي، أقرصها، أستعيد أنفاسي، فأخشى عليها ولا أطلقها، أتعلّم النطق من جديد، وأخاف من وضوح النهار على عينيّ المعتمتين. تذكّرتُ كلّ ما جرى في الليلة السابقة، فقد ذهبتُ إلى الحمّام مرات تفوق مريضاً مستجداً بالسكّري، ورعاشاً غريباً كأنه إصابة مبكرة وغير مبررّة بمرض باركنسون، وكلّ هذا لأنّ جهة ما، ولضرورة ما، طلبت منّي شهادة تفيد أنّي حسن السيرة والسلوك.. من الشرطة.
استقبلني رجالٌ أو هم أنصاف جبال، بـ “تشريفة” وهي استقبال عند دخول السجن بضرب غير مركّز بالعصيّ، لم أحاول أن أتفادى الضربات بيديّ، فقد كسرتا في أول “الحفلة” وتركتا ما تبقى من جسمي لكدمات ومسبّات أوصلته غرفة المحقّق نصف جثة، وهناك سبقني كلّ ما قرأته في “القوقعة” و”شرق المتوسط” و”شرق المتوسط مرة أخرى” وما لم تجزه الرقابة في فيلم “البريء”، وما كان أبعد من خيال المخرج والمؤلف.
جلستُ على الكرسيّ الألمانيّ، والزجاجة المهشّمة، وقلّدتُ عجين الفلاّحة على صفيح حامٍ، تمدّدتُ فوق بساط الريح بهيئة مصلوب، صعقتُ بكهرباء تكفي لإضاءة الأنبار والحسكة، شُتمتُ بشتائم غير متداولة سوى في أضيق زقاق لا تصله الشرطة، شُبحتُ وفُلقتُ وسلختُ وحشرتُ في الدولاب حتى أعترف أنّي إرهابي ومأجور، وقائمة طويلة من الاتهامات تكفي لنيل الإعدام مائة مرة، ولأجل العودة إلى الزنزانة اعترفتُ أنّي من أطلق الرصاصة القاتلة على جون كينيدي.. قبل ولادتي بعشرين عاماً.
في الزنزانة كنتُ أنام واقفاً، أستنشق أنفاس المحبوسين، وأعيدها إليهم، أقضي حاجتي في جردل حديدي أمام من يغضون نصف البصر، تشاركني حشرات زاحفة قطعة الخبز وكوب الماء العكر، أشاهد مسجوناً يذوي حتى يسقط ميّتاً، أقرأ شعراً محرّضاً على البطولة مكتوباً بالأظافر، ونسيتُ اسمي فقد زوّدت برقم مركّب خال من حروف العلة. أحاول النوم، أستجديه، حتى أفيق مذعوراً، أتفقد أطرافي وأعضائي لأتأكدَ أنه حلمٌ بعد عشاء.
أنا مدجّنٌ وقابل للتجميد، فروايات التعذيب في السجون الناطقة بالعربيّة جعلتني كائناً رخواً، مستجيباً للطيّ في “الجريدة الرسمية”، لا أناقش رقيب السير في المخالفة الكيديّة، أو أرفع عيني بعين محصّل الكهرباء، وأدفع بخاطر طيّبٍ ضريبة على الضرائب لأنّي لا أعرف ولا أريد أن أعرف من الحريّة سوى أنّي حرٌّ في اختيار الجنب الذي أنام عليه، نوماً طويلاً لا كوابيس فيه، ولا بولاً مُعيباً.
هناك ثورة على “العربيّة” وأخرى على “الجزيرة” وثالثة على “سكاي نيوز” كلّها تحرّضني.. لكنّ شهادة حسن السيرة والسلوك تمنعني.