كل الأغاني المكتوبة للأم هي دائماً بصوت الابن البارّ، أو الابنة الرضيّة، وهذه الأغاني القليلة، والقلة المميزة منها، يتمّ تدويرها كلّ آذار على الإذاعات في موسم الحبّ الطارئ. واحدة من أهمّ هذه الأغنيات، هي “ستّ الحبايب” التي كُتِبت في خمس دقائق على السُلّم، بلحن عظيم لمحمد عبد الوهّاب، سيخلدها ألف عام. وهناك أخرى من وحي تمثال بغدادي لأمّ تمنع الرّيح عن ابنيها، وهي الأغنية التي تسعف أيّ ابن في النداء على أمه: “يا مايْ عيوني”، بالعراقيّة التي نطقها سعدون جابر.
لكنّ هناك أغنية واحدة بلسان الأمّ النادبة التي كسرها العقوق، وهي الأغنية غير المعترف بها في موسم آذار. للأغنية قصة قديمة، وكلّ قديم مختلف عليه، لكنّ الرواية الأكثر شيوعاً أن أرملة جنوبية داهمها فيضان دجلة وهي تحمل ابنها، الذي وضعته على رأسها، وعبرت به النهر إلى الشط الآمن. سيكبر الولد، كما تتفق المرويات، ويرمي أمه خارج المنزل، ثم يأتي شاعر شعبيّ اسمه عزيز الرسام، ليكبتها أغنية اسمها “عبرت الشط” خالية من ذكر الأمّ، ليساء فهمها، وتصبح أغنية كلّ المواسم، ما عدا آذار.
قبل أن يغنّي كاظم الساهر الأغنية في 1988، كان لسبع سنوات مجهولاً، يضع رقم هاتفه في المراقص في حال اعتذر “المطرب الأول”، وبأغنية الشط “عبر” إلى الكويت، هناك هُيئ له استقبال لم تصله كلّ أحلامه في اليقظة، فقد خرجت النساء بـ “الشيلة” لاستقباله في المطار، وصارت الأغنية مقرراً تلفزيونياً وإذاعياً. حاول الساهر تصحيح سوء الفهم، وروى حكاية الأرملة الجنوبية في مقابلة لم يرها كلّ من أحبّ الأغنية، ورقص على إيقاعها في الأعراس مع زغاريد الأمّهات.
لم تفتح أغنية الشط باب الحظّ لكاظم، بل اقترحت له أيضاً مساراً آخر للنجومية المطلقة، فبعد أن طرقت شهرة الأغنية الجهات الأربع، كان كاظم في السنة الأخيرة في المعهد. أرسل إليه أستاذه منير بشير يحذّره من غناء “عبرت الشط” في الامتحان النهائي، فالنخبة الموسيقية كانت تترفع عن سماعها وقبولها، بل إن هناك من كتب بوصفها أغنية “النّوَرْ”. حين ذهب كاظم إلى المسرح أمام منير بشير، استرسل في العزف على العود، قبل أن يغني “إني خيرتكِ فاختاري”.. وهذا كان العقوق الثاني.
ربّما لحن الأغنية الشعبيّ، وإيقاع “الخِشْبة”، ساهما في تكريس سوء الفهم، وفي عدم اعتماد الأغنية في موسم آذار. ليس مهماً، فـ “عبرت الشط” ستعيش عشرات السنين الأخرى، وستظلّ اسماً شارحاً لكاظم الساهر، وستصبح تراثاً قد يتعرّض للسرقة والتشويه، أما تصحيح سوء الفهم، لن يتطلب أكثر من إعادة التحديق في الكلمات، أو تخيلها مع خلفيّة من رمل البصرة.. فيا عزيزي المستمع من سيحملك على رأسه حين يداهمك السيل، غير أمك، ثمّ أمك.