انتهى على نحو مؤسف زمن طويل اعتقدت فيه أني “نادر” زماني، و”فريد” وقتي، و”غير” عن كلّ الحشود، وفي رأسي كثير من “الاستثناء”. كنتُ مقتنعاً أنّي الوحيد بين البشر الذي ليس له أربعون آخرون يشبهونه أو يُشبّه لهم ذلك، والذي لا يرد اسمه إلاَّ مجرّداً من أيّ شروحات لإزالة الالتباس مع “صِنف” آخر من الناس.
لكنّي أفقت متأخّراً على حقائق صادمة، بدأت بمعرفتي أنّ العيْب الخلقيّ الذي ولدتُ به، وظننتُ أني أتمايز فيه عن الأصحاء والأسوياء من سكان الأرض، يشاركُني فيه نحو سبعمائة طفل يولدون في العالم في يوم واحد فقط. وحساب بسيطٌ لمن وُلدوا منذ ثلاثين عاماً على الأقل، وضعني أمام حقيقة مُرّة مفادها أني شائع ومتوفر وكثير التداول.
تأمّلت ملامحي النفسية التي ظننت نصف العمر أنّها تخصّني وحدي، لأكتشف اليوم في النصف الآخر من العمر، أني اكتسبتها بانتسابي إلى برج فلكيّ ينتسب إليه ما لا يقل عن عشرة في المائة من سكّان الكوكب، والنسبة المتبقية منهم تتقاطعُ معي في المواصفات الجسديّة والانتماءات العرقيّة والمذهبيّة ودرجة التعليم والتخصص.. وموت الأب وبقاء الأمّ وحبّ القهوة الإيطالية.
انفرطتْ إذاً مسبحة خصوصيّتي وفرادتي واستثنائيّتي ونُدرتي. لم أعد ممتلئاً بالوهم أنّ حياتي روائيّة المآل، وسينمائيّة بفكرة تقوم على تمجيدِ البطلِ وملاحقته بالكاميرا المحمولة، فقد تأكّدت أنّي كائن مستنسخ، أحتفظ بنسب تشابه كبيرة مع ملء ولاية في جمهورية فيدرالية، بل إنه يمكن تقليدي في نسخ بشرية طبق الأصل والفصل حتى مع العلامات الفارقة.
عاشق والعشاقُ يتشابهون في أسماءِ حبيباتِهم، كئيب والسهارى كلهم يبكون عند المقطع المؤثّر في الأغنية النوبية. نعم لديّ أحاسيس غريبة لكنها مألوفة عند كلّ شاعر أو مستشعر. إن كان لي صفات حميدة فقد علّمها الشيخ والخوري لكلّ المصلين، وإن كنت أتمتّع بصفاتٍ أخرى كريهة فقد اكتسبتها من أصحاب الأوكار ومرتاديها في قاع المدينة.
“زيّ الناس” لستُ أكثر أو أقلّ. أضحك مثلهم عندما يستعصي البكاء، وأبكي عندما تحضر مبرّرات الضحك. لديّ سيارة لكني أثناء أزمة المرور أشاهد أخواتها في اللون والموديل وسنة الصنع والضربة الخلفية. إن صعدت أو نزلت، فأنا مواطن أحياناً يصفني المذيع أني صالح، سوى ذلك لا شيء يميزني، حتى اسمي أحمله مع آخرين يقدّر تعدادهم بسكان الإسكندرية والبصرة.
لن أرفع رأسي بعد الآن سوى لطلب الشاي من النادل، أو لرؤية الدخان في أثر الطائرة. لن أرفع أنفي أيضاً إلا لإجراء مسحة طبية أو لشمّ رائحة من مطبخ الجيران. فلستُ “نادر” ولن أكون “فريد”، كما أن أوصافاً أخرى مثل “غير” و”استثناء” هي عبارات دعائية لا يمكن تصديقها، خصوصاً أنه سبق وأن أطلقت على سائل الجلي المشكوك في جودته.
اسمي تحسين أو رشدي وربما زهدي.. هكذا أبدو مطروداً من بين القوسين.