ذات صلة

لا دواء لـ النوستاليجيا في الصيدلية!

اتخذتُ قراراً متأخراً.. أن أكون كائناً حداثياً، فاستبدلتُ تلفازي الصغير المحدود الذكاء، بآخر فائق الذكاء، بحجم سجادة صلاة على الحائط. صار بإمكاني أن أشاهد أحدث الأفلام الغربية والعربيّة بلا تذاكر ورقيّة. فاعل خير دلّني على تطبيقات سخيّة فيها آلاف الاقتراحات. وهذا المساء كنتُ وحيداً مثل المساء السابق، ففتحتُ التطبيق السحري على تلفازي، قرأتُ مئات الملخّصات لأفلام أقدمها تزامن مع تفكيري بشراء التلفاز الجديد. فتحتُ تطبيقاً عربياً، فوافاني بعشرات الاقتراحات لأفلام عربية حديثة، لكنّي كنتُ كلما مضيتُ بالمؤشر، ظهر فيلم أقدم، وهكذا حتى وصلتُ العام 1996، وكان الاقتراح “النوم في العسل”، وبلا تردّد ضغطتُ على زرّ التشغيل.

**

قد أنسى أنّي وضعتُ قبل قليل ملحاً على البيض المخفوق؛ لكنّي لا أنسى أول دمعة مالحة.

**

لن أموت بأمراض العصر الشائعة، لكنّ هذا ليس دليلاً على أنّي سأعمّر مثل كائن يابانيّ يقتاتُ منذ مائة وعشرة أعوام على الأرز المسلوق. سأموتُ مبكراً، لا بذبحة قلبيّة بعد أن تهجرني امرأة مزواجة، ولا بأعراض الشلل النصفي حين تسقط عاصمة جديدة تحت عباءة المرشد. عشرات الميتات في ثلاّجات مستشفى البشير سأنجو منها، وسأموت أنا ابن كمنجة في أغنية سلامات العراقية، في مدينة عصرية حين أنشغل في يوم حار من عام ألفين وعشرات من السنين، عن الطريق السريع، لألتقط شريط الكاسيت من أرض السيّارة.

**

لديّ هاتف كوريّ حديث، وكمبيوتر محمول، ورقم سريّ لفتح الباب الخارجي للمنزل، ولديّ أيضاً أجهزة أجهل أسماءها، واستعمالاتها، وأسباب اختراعها، لكنّي اشتريتها فقط لأثبت أنّي عصريّ ابن العصر. وضعتها في أماكن بارزة في البيت لأقول للزوّار الذين يطلون عليّ من نافذة المحادثة الفوريّة أني هُنا، وإن كان لي أشلاء عالقة في نهاية التسعينيات.. حين كان هاتف السيارة الدلالة الوحيدة على النعمة الزائدة!

**

إذا كتبتُ في خانة البحث في يوتيوب عن أمر ما، سيظهر لي مجدداً كلّما فتحتُ التطبيق، مع خيارات أكثر. مثلاً لو كتبت اتفاق أوسلو ستظلّ تظهر لي كلّ الفيديوهات المرتبطة بهذا الحدث “المشؤوم” الذي لا أراه مشؤوماً. وهكذا فلو فتحتم يوتيوب من جهازي ستندلقُ أمامكم كل ليالي الحلمية.

**

سألتُ الصيدلانيّ عن دواء للنوستاليجيا. لم يضحك أو تبدر منه سخرية. اقترح حبوباً بيضاء للصداع، أو دواء سائلاً لوقف سيلان العين والأنف، وتسهيل النوم. ودعا لي بالشفاء. كان دعاء ملغزاً، لكني لم ألمس منه سخرية. آه صحيح، لقد نسيتُ أن آخذ كيس الدواء..

**

نسيتُ أيضاً أنّي وضعتُ قبل قليل ملحاً على البيض المخفوق!

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة