كان أول شريط كاسيت أضعه في المسجلة، أبيض، كُتب عليه بالأحمر الباهت: عمرو دياب. كان ذلك في العام السابع من الثمانينيات المجيدة. طفلاً في الثامنة، كنت، حاولتُ تقليد غِرّة شَعر الفنّان الشاب، ورقصه في الاستديو. اخترتُ المشروب الغازيّ الذي كان يروّج له، وأحسبُ أني أتقنتُ حركاته الرياضيّة في أغنيته المصورة “ميّال”. مرّ عامان، كبرتُ فيهما أكثر من عامين، فيما بقي عمرو دياب في السادسة والعشرين. كبرتُ أكثر، صرتُ فتى في الثالثة عشرة، متجهّماً أشتري النكد بسعره الأعلى، وعمرو دياب في السادسة والعشرين، وأيام.
كيف لفتى متجّهم، يقرأ سيرة بدر شاكر السيّاب، أن يستمع إلى مغنِّ راقص لا يستقرّ على جهة في التلفزيون. اندمجتُ إذاً في الكآبة العراقية من ناظم إلى كاظم، أدخل الموّال في عام وأخرج منه في عام. أتلفتُ شرائط عمرو دياب مثل “عاص تائب”، واستبدلتها بأغنيات عبد الحليم الطويلة، لكن حتى العندليب لم يكن كافياً لحجب عار العامين، فاقتنيتُ كلّ أغنيات أمّ كلثوم التي من ألحان “بليغ”. حشدتُ بيوت “الكاسيتات” بأغلفتها وألوانها الباردة على الحائط المقشور. كبرتُ، بشاربين وسالفين، وشعر فوضوي، صرتُ في الثامنة عشرة، وعمرو دياب في السادسة والعشرين، وشهر.
طالبٌ جامعي عابس، يمشي خطوتين مستعجلتين أمام الطالبة المعجبة، ويشارك في المظاهرات الصاخبة للمطالبة بغلق السفارة، ثمّ يحضر اجتماعات حزبية بكدمات في الساق والرقبة. هذا أنا في العشرين، كأنّي في الأربعين، أقرأ كتباً حمراء، وأشاهد أفلام المهرجانات التي أشاد بها النقّاد، وأكتبُ شعراً برفقة العلب الخضراء، وعندما يبدو أني محوتُ عار العامين الأولين، أضطرّ للركوب مع “نقولا” في سيارة العودة من إربد إلى عمّان. كان “نقولا” مفتوناً بعمرو دياب الذي صار يُختصر اسمه المختصر بـ “الهضبة”. العام ألفين، وإسطوانة “تملّي معاك” يحملها الهواء، فأسمعها مرغماً ومغرماً: أفتح أذناً وأغلق أخرى!
صرتُ في الثلاثين، بشيب مبكّر، وكتفين منهزمين، أما عمرو دياب فقد بلغ السابعة والعشرين، بشَعر ملوّن لا يستقرّ على تقليعة. توهّمتُ أني أصبحتُ مهمّاً، فطاردتُ عار العامين، حتى هاجمتُ مؤلفاً و”سيناريست”، فوصفته باستصغار: “كاتب أغاني عمرو دياب”. كبرتُ أكثر، حتى توقّفتُ عن عدّ الأعوام. فالعمر ليس أرقاماً قمرية أو شمسية، يمكن حساب العمر بالدهون الثلاثية، ومستوى الكوليسترول الضار، والخيبات، ومدة الإقامة في نون كان. وسأكبر أكثر، أخشى أني سأتجاوز الستين، كما يقول الفنجان والكف والودع، بينما يدخل عمرو دياب سن الشباب المتأخّر، في الأربعين.
خسرت (وهذه ليست أول خسارة، لكني أحسبُ أنها قد تكون الأخيرة). خسرتُ أمام الهضبة، ورغم كلّ الشيب الذي في جسدي، فقد عدتُ مستمعاً لعمرو دياب، مرغماً ومغرماً. أستعين به في سيارتي حين تركب بجانبي فتاة في الخامسة والعشرين، لأبدو أمامها حديثاً، مقاوماً للزمن، لكنّي مثل أي جهاز تجاوزه الوقت وركله، أضع أغنيات قديمة لعمرو دياب، أغنيات كانت في عصر التسعينيات ملعونة ومذمومة وسبب بلاء الأمة وضياع فلسطين وحصار العراق، أما في مقاييس غناء اليوم، فكأنما هي من تراث عبد الحليم أو قُلْ عبده الحمولي!