قد أكون متناولاً قرصي بندول نايت لأستجدي النعاس عله يأتي في منتصف الليل، فمن المعروف أني موظف يرتدي قميص نصف كُمٍّ، ومن المفترض أني ملتزم بالصحو عند السابعة صباحاً، لكنّ إعلاناً مفاجئاً على قناة السينما بأنّ العرض التالي هو فيلم “النمر والأنثى”، يدفعني إلى المطبخ لإعداد القهوة الإيطالية التي يمكنها طرد المفعول الأزرق السريع. أجلسُ على الكنبة بانتظار العرض، وإن كان لا بدّ أن أعطيه رقماً، فهو الأول بعد الألف.
الفيلم قديم من إنتاج العام السابع من عقد الثمانينيات (وما أدراك ما الثمانينيات). المخرج هو سمير سيف، الخفيف من ألقاب النقد، فهو ليس عظيماً ولا عبقرياً ولا عالمياً، لكني أحبُّ له “المشبوه” و”الغول” و”الهلفوت”، وهذا قد يكفي. الكاتب هو إبراهيم الموجي (يمكن أن تكرر اسمه عشر مرات قبل أن تتذكر عنه شيئاً) القصة ليست مفضلة عندي (مطاردة ومخدرات). البطلة هي آثار الحكيم (ليست يسرا ولا ليلى علوي) البطل أحبّه مع كثير من “لكن”، إذاً هو عادل إمام.
وفوق كلّ ذلك، الفيلم متوفر في خزانة يوتيوب بجودة عالية، ومتاح على تطبيقات ذكية بدون رسوم، أيضاً يمكن أن أشاهد الإعادة بعد العودة من العمل.. وهناك تقنية على التلفاز تتيح لي حفظ الفيلم، كأنه ما تبقى من الطعام. إذاً لماذا أفعل (ولا أفتعل) كلّ هذه “الدراما”، وتكون مشاهدتي على حساب ساعات النوم الضرورية قبل العمل (طبعاً لم أخبركم أني اضطررت مرة لإلغاء سهرة ليس لها عرض ثان، لأشاهد العرض رقم ألف)!
العرض الأول.. سبق الفيلم دعاية كبيرة في الصحف، وكان إعلانه الترويجي على تلفزيون الكويت حديثنا في الأزقة، نعيد تمثيله، وصفعاته. كنتُ في الثامنة، أي دون سن دخول السينما، فظلّ الفيلم أمنية حتى أني حلمتُ به. كانت الأفلام تتأخر بالعرض التلفزيوني لسنوات، لذا كان مفاجئاً أن يعلن تلفزيون الكويت عن عرض الفيلم ليلة رأس السنة الثامنة من الثمانينيات. ذهبتُ إلى المطبخ وصنعتُ شيئاً يشبه القهوة التي تؤخر النوم وتسرّع نموّ الشاربين.
ومنذ اثنين وثلاثين عاماً، كلما عُرض الفيلم ذهبتُ لصنع ما يشبه القهوة. أعرفُ أني أبدو سخيفاً، وقد يحسبُ أستاذ رياضيات، حين يعرف أن مدة الفيلم ثلاث ساعات غير منقوصة، كم شهراً أهدرتُ من عمري لأشاهد أحداثاً محروقة، وقد ينبّهني ناقد إلى متع ودُرَر سينمائية فوّتها حين كنتُ أعيد الفيلم إلى ذروته. قد تنعتني امرأة بأنّي مجنون، ففي ثلاث ساعات يمكن أن يبرد الحبُّ، وقد يوبّخني صديق، ففي ثلاث ساعات تولد رواية وتلمع الذَرّة.
نعم لقد أهدرتُ آلاف الساعات في مشاهدة الفيلم، وترديد الحوار قبل الممثلين الأحياء والأموات، ولفت نظر المخرج المرحوم إلى الأخطاء الجميلة التي خيراً فعل حين لم يتداركها، وسماع موسيقا “محمد سلطان” بالناي والقانون والكمان والدمع، ومستعدٌّ لأن أهدر آلافاً أخرى من الساعات، بما أن لا تقنية أو فتحاً علمياً ولا معجزة متقدمة يمكن أن تعيدني طفلاً في الثامنة.
صحيح.. لقد تعمّدت ألاّ أخبركم شيئاً عن أحداث الفيلم حتى لا أحرقها!