جرّبتُ الغناء، فمنذ حروب كثيرة لم أغنِّ. وقفتُ في شرفة الطابق الأول، وانتظرت حدوث ازدحام في منتصف الشارع الفرعي. صدحتُ بمقطع الحريّة من أغنية الأطلال. ضحكت فتيات الصفّ العاشر اللواتي يتهيأن لدرس التدبير المنزلي، ورماني صبية بخضار فاسدة وكلمات قبيحة، امرأة مسنّة أخفت بمنديلها الأخضر ضحكتها الخالية من الأسنان، ورجل معتم الوجه توعدني بالصعود لكسر رقبتي. لم أواصل الغناء بالطبع، ليس حرجاً أو خوفاً، لكنّي تأكدتُ أن الحروب الكثيرة انتهت لكنّ السلام لم يبدأ.
حاولتُ كتابة قصيدة ولم أنشغل بقافيتها أو بحرها. الناقد اعتبرني خارجاً عن طاعة البيت وأوصى بحبسي ستين يوماً في معلقة زهير بن أبي سلمى. رجل الدين قرأها من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، ثمّ رأى فيها تجديفاً واعتبر زواجي باطلاً. القارئ كان حادّ المزاج، فكتب تعليقاً مشحوناً بالسباب، خلص فيه إلى أنّ القصيدة واحدة من أسباب النكسات. حزنتُ مثل شاعر فقد كرامته في وطنه، ووعدتُ الناقد ورجل الدين والقارئ بالتوقف عن الكتابة حرصاً على الثروة الحرجية.
رجوتُ المخرج أن يسند لي أي دور ثانوي في الفيلم، قلتُ له إنّي مواطن طيّبٌ وصبور، ولا أريد سوى فرصة واحدة للخلود، فاختار لي مشهداً خارجياً لمعتقل سياسيّ يموت عطشاً في السجن الصحراوي. متُّ بإتقان غريب بدون إعادة كما طلب مني مساعد المخرج العصبيّ، ثمّ عدتُ إلى الحياة بعد انتهاء الفيلم، ومشيتُ مثل الناس في الشارع العام، ألقيتُ التحيات لكنها لم ترد إليّ، مددتُ كفي للسلام لكنها ظلتْ معلقة في الفراغ. شككتُ بأمر وجودي، فراجعتُ الأحوال المدنية التي أعادت قيدي إلى مديرية السينما.
أتيح لي الوقوف على المسرح لأقول كلمتين اثنتين وأنصرف إلى الكواليس. كانت مسرحية عن قصة حب حارة: العاشقان بينهما أمور مستحيلة بالغ المؤلف في تعقيدها. في نهاية كلّ فصل كان يبدو أنّ النهاية العربية السعيدة اقتربت، وأن العاشق الفقير سيتزوّج أخيراً من ابنة العزّ والنسب، وسيذهب أبوها النافذ إلى بيته العشوائيّ، ويطلب منه المغفرة وتسدلُ الستارة قبل إتمام القبلة، لكنّ كل ذلك لم يحدث، بل إنّ الفصل الأخير انتهى على نحو تعيس بانتحار العاشق من تلة صُمّمت خصيصاً لهذا الغرض. نسيتُ أن أحدّثكم عن دوري، فقد كنتُ أحد المارة الذي سأله العاشق عن الوقت، فأجبت: “يبدو ليلاً”.
لا مكان لي في هذا الزحام. أترقب لحظة صمت واحدة لأقول كلمة، أو كلمتين، أو أن أقذف كلّ الكلام الذي يعيق الهواء عن رئتي. جرّبتُ الغناء، فضحكت فتيات الصفّ العاشر، حاولتُ كتابة قصيدة، فصرتُ سبب انحسار الغابة، دخلت إلى الفيلم فمتّ من العطش، صعدت إلى المسرح لأصرخ، فكانت القصة عبثية.. وهذا أنا الذي يجلس على رصيف مكسور أسفل المدينة بشعر أبيض كثيف، ولحية نتنة، وأنتم الذين تمرون أمامي وترمون على خرقة النقود المعدنية، ويمنعكم الاشمئزاز من النظر إليّ.. أنتم الأسوياء الذين لم تحاولوا صعود المسرح.