أغلقتُ الهاتف، وأرسلتُ إليكِ ابن الجيران النبيه، ليخبرك أن تتبعيني. أوصيته أن يضع في كفّكِ رسالة مكتوبة على ورقة التين: لقد عدت. أعرف يا صديقتي أنّي تأخّرت كثيراً، وأحرقتُ سجائر محليّة في محطات الانتظار التعيسة، وهناك عرق ممتد تحت الإبط يدلّ على أن المشي كان أطول من الطريق. لكنّي وصلت. الساعة الآن حسب التوقيت المحليّ لمدينة الزرقاء، الواحدة ظهراً، والشمس بكامل نارها في منتصف آب، في العام الثالث بعد ميلاد الفاكس. اتبعيني إلى سكّة الحديد، إن اختلفنا على المسار، عودي أنتِ إلى القبيلة باتجاه الحجاز، وأصعدُ أنا كالتوبة إلى الشّام.
تعالي نذهبُ خارج “التغطية”. اقفزي كالطفلة في أول لعبها بالحبلة من فوق خيوط الشبكة. تعالي منفيّة من الأوطان الافتراضية. المزاج صحراوي، ومعي شريط كاسيت بجودة مقبولة لـ محمد عبده، “وفي ملامحنا من اللهفة ملامح”، تقرئين قصيدة على بحر الرمل: “رمل الأبحر ترويه الثقات، فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن”. أقرأُ لكِ الصفحة الوحيدة الناجية من اضطراب الريح، فيها تعليق سياسيُّ حادّ على عاصفة الصحراء. لن نُطيل، سنأكل تمرتين، ونشرب حليب النوق، والقهوة حلوة بلا سكرّ، ونشعل ناراً، أضمُّكِ، كما تفعل غيمة بغيمة.
لا تقلقي من مرور الوقت، فلن يتقدّم، ولن يتأخّر. إن نقصت الساعة فلا تجزعي، سنملؤها برمل إضافي، رمل ناعم، لا حصاة فيه، ولا فراغ. لا تفكري بالعودة إلى هاتفكِ، أعرف أنّ أحياء كثيرين هناك ينتظرون في غرف الكلام رسالة منكِ ليتأكدوا أنكِ حيّة ترزقين، وجبينك مضاء، ولم تتعرضي لحادث سير، ولم يخطفك قاطع الطرق. افترضي في واحدة من الافتراضات أنّي الذي اختطفكِ، وأنّكِ هنا في الصحراء تحت سلطة الأمر الواقع، ثمّ جرى بيننا حبّ الأمر الواقع كما يحدث أفلام عربيّة سخيفة: امرأة برجوازية تترك القصر من أجل القبو. أحبيني إذاً، هذه الصحراء لن نبني فيها حجراً، ولن تدخلها وزارة الاتصالات.
تعرفين أنّي كتبتُ كثيراً عن الحبّ لكنّي لم أجرّبه. خرجتُ مرات عديدة من الحبِّ، ولا أذكرُ أنّي دخلته. نقلتُ كلاماً عن الحب، وشعراً عباسياً، لكني لم أصدّقه. مشتاقٌ أنا للرّمل، والجلوس على سكة الحديد، بانتظارك أو انتظار رسولك. أضجرُ فأدندن بلحنٍ بريّ، وأرمي حصاة باتجاه طائر الدوريّ، وأرسم على الرمل وجه امرأة، أمنحه ملامحك التي أجهلها، فلا هاتف في كفّي لأعد خطواتك المتبقية، ولا صورة ترسليها لأراكِ قبل الرؤيا. قلبي يا صديقتي مُغبرٌ، وبيتي كثيب رملي، وأحنُّ إلى الحبّ الذي كان آخر ظهور له في الخامسة والربع من مساء الثاني من جمادي الأول، من العام المائة والخمسين بعد الهجرة.