كل الأنباء النكِدة الواردة من جنيف تؤكد أنه ينبغي على العالم، من الأول حتى الثالث عشر، التعايش مع فيروس كورونا المستجد، كأنّه الابن الذي ظهر بعد وفاة الأب، وهذا يعني أننا سنستمر في ارتداء الكمّامة، حتى يصبح الجلد تحتها فاتحاً. أنا لا أتذمّر، على العكس تماماً، فقد اكتشفتُ أن للكمّامة فوائد رائعة تفوق لحم السمك، وأوراق الهندباء، والزنجبيل مع الليمون، ولن تكتشفَ هذه الفوائد إلا حين تكسر الكأس بنصفيه: الفارغ والملآن.
لم يعد أحد يستوقفك في المتجر لأنّك قد تكون ابن خالته الضال، أو يطيل النظر إليكَ للتشبيه، فمع الكمّامة اختفى “الأربعين” الذين كانوا يشبهونكَ، إذ صار لنا وجه واحد، غالباً ما يكون أزرق، مع فروقات بسيطة بالجودة. صرتَ تمشي كأنكَ قط ضمن القطيع، ما يميزك لونك (وألوان البشر محدودة) أو طولك (ولكلّ أمة معدل متقارب) أو وزنكَ (وبالحَجْر اقتربنا كلنا من قياس اكس لارج)، وإن كنتَ في عدن أو في الشام.. ستبدو كأنكَ في الصين الشعبية.
بالكمّامة كلّ النساء صرن جميلات، ولم تعد مضطراً إذن لأن تجامل امرأة قبيحة بالعبارة الباهتة من فرط الاستهلاك: “الجمال نسبي”. وبالكمّامة أيضاً انتفت الحاجة لكلّ الشِّعر العربيّ القديم الذي تغزّل بالفم والأسنان (وعضّت على العنّاب بالبَرَد) والغناء الشعبيّ في الخدود (بأنّها تفاح لبناني) ولم يعد السفر ضرورياً إلى بيروت لتصغير فتحة الأنف، حتى الغمّازات تعطّلَ سحرها، وتوقَف الجدل التاريخي بين النساء، فمن يمتلكنها كنّ يعتقدن أنها حُسنٌ زائد، ومن يفتقدنها اعتبرنها بكيد نسائي لا حلّ له عيباً خَلقياً!
والرجال بالكمّامة كلهم يتساوون ويتطابقون مثل نصفيّ حبّة فول، وطيّبون هم لا يؤذون أحداً برائحة الفم، ومتواضعون، أو يبدون، فمهما ارتفع الأنف لن يخرج من الكمّامة. لن تميّز الشيوعي عن الإخوانيّ، لا في شكل اللحية ولا في طريقة تحديدها. كلّ عُقد النفس من خلل تقويم الأسنان، وانتفاخ الأنف، والشفاه البنفسجية، صارت من الماضي، أما أنا فقد استغللت هذه الظروف لملء كلّ عقد النقص، حتى أني حين أنظر إلى صورة إعلانية في الشارع لرجل بالكمّامة، يفترض أنه وسيم، أشكُّ إنْ كانت لي أو لـ تيّم حسن!
لم يبق إذن سوى العيون، ونحن بانتظار توصية إلزامية من المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، لتغطيتها بعُصابتين.. ولن نبدو حينها كالقراصنة. التوصية متوقعة، وليست بعيدة، ولن أعدّد لكم فوائد العُصابتين في حال تم فرضهما تحت طائلة المسؤولية، إلا إذا كسرتُ كأساً آخر بنصفيه: الفارغ والملآن (إن أتيح لي أن أرى). أنا لا أسخر، فالجائحة ليست مزحة موسمية، ولن تبدّدها شمس الصيف، ولا البهارات الهندية، والتباعد سيستمرُّ.. أنتِ هنا وأنا هناك، مدّي يديكّ نحو الفراغ، وسأمدُّ يديّ.. أو لنستنكف عن الحبّ، كما زهدنا بغريزة البقاء.