في كلّ مرة أذهب إلى الطبيب، أعيد وصف حالتي المزمنة. يكرّر هو الأسئلة الفائضة، أكرّر أنا الإجابات المملة. من نظرات عينيه أعرف أنه يعرفني، كما يعرف تفاصيل حالتي، لكنه يبدو ضجراً، فلا مراجعين على المقاعد الخارجية، وساعات مناوبته في المستشفى طويلة مثل ليل المريض. يسألُ وهو يطالع ملفّي على الكمبيوتر أمامه، لكنّ الإجابات تؤلمني، تذكّرني بحادثة قديمة فقدت فيها شيئاً منّي، ومشاهد تعيسة بسبب أسئلته الأخرى التي طرأت أثناء الكشف، غير مكترث بما استجدّ بي من ألم.
يؤلمني تكرار الكلام، كأنّي أخرجه من حنجرة منهكة بالنتوءات.
مضطرّ لأن أقول لامرأتي أني أحبّها كلّ مساء ماطر. وكل مساء صاف. أخبرتها أنّ هذا التكرار يفسد ما في كلمة “أحبّك” من نبيذ، ويجعل المفردة مثل مشروب مُحلّى. قلتُها مرّة، وكانت الأولى، برعشة طائر تحت أول مطر. ثمّ قلتها آلاف المرّات بكذب مُحلّى.
الكذب أيضاً صرتُ مضطراً لتكراره، وهذا ليس مؤلماً فقط، كأنّي أخرج الكلام من حنجرة منهكة بالنتوءات، بل حرام أيضاً، ويزيد من سيّئاتي، فلماذا يا امرأتي تدفعيني إلى النّار، بعد أن تحريتُ الكذب، حتى كُتبتُ كذابا.
الكلام أول مرة من فضّة، الكلام عاشر مرة من قشّ.
حين تأتي نشرة الأخبار، صباحاً أو مساء، أكتم صوت المذيع اللامع. ليس من حركات شفتيه أستطيع أن أحزر ما يقول، بل لأني أحفظ عن ظهر وبطن قلبي، كلّ الكذب الذي يقرؤه من على شاشة التلقين. بعد أن يلقي تحية الصباح أو المساء، سيتحدث بكلام لزج عن “حل الدولتين” و”تقرير المصير” مع مشاهد لمصافحات وابتسامات مكررة، وبعد الفاصل سيتطرق إلى “النهج الديمقراطي” في جمهورية الموز، وبالطبع فإن ختام النشرة لابدّ أن يكون مهتزاً بقلق الأمين العام للأمم المتحدة على أي مصيبة مكررة في الكون.
لو أن هناك تقنيّة تتيح لي أن أخبر المذيع بشأن قشّة عالقة على طرف شاربه المصبوغ بالأسود.
حتى الكلام يمكن صبغه.
لو أنكم ما اضطررتموني لتكرار الكلام، ما كنت كذبت، ولا حرصتُ على تلوين الكلام قبل نطقه. لو تركتم المبادرة لي لقلتُ لكم كلاماً طازجاً، خالياً من الصبغة والمواد الحافظة. لكنكم تحبون الثرثرة فوق النيل أو الفرات وعلى طول الخليج، حتى على المحيط وعلى الجانب الشرقيّ من المتوسّط.. وكما قال الطليان: بين القول والفعل يتوسط البحر.
أيّها الطبيب.. لم أزرك من قبل، ولا آلام قديمة توجع قلبي. قلْ وسلْ فالمناوبة طويلة، وليس ورائي إلا ساعات الرمل. ويا امرأتي، “أنا أحبّكِ” سأغنيها لتستمعي إليها في سيارتك وفي النادي الرياضيّ وأثناء الجلي. (.. وتكفيني جنّتكِ). أيها المذيع، ابدأ النشرة بتحية الصباح أو المساء، وسأرفع الصوت حتى آخر درجة، وأسمعك كأنها أول مرة أسمع فيها “حق العودة”.
يبدو أني ثرثرت حتى كدتُ أقول الحقيقة.