شاهدت “التغريبة الفلسطينية” للمرة الأولى، بعد خمسة عشر عاماً على العرض الأول. وكلما ضاعت مني مفردة فلسطينية، سأكرّر مشاهدة المسلسل الذي يعد واحداً من أصدق الوثائق البصرية التي تعرّضت لـ “قضية القرن”، في تأخّر له مبررات “غريبة” ولا تنفصل عن “التغريب”!
المسلسل سوريّ. وربما يمكن القول فيه مثلما قيل في رواية “باب الشمس” للروائي اللبناني إلياس خوري، التي تحولت أيضاً إلى فيلم من إنتاج فرنسي سخيّ، حين وُصفت بأنّها “رواية فلسطين التي لم يكتبها الفلسطينيون”.. صحيح أن كاتب “التغريبة” من أصول فلسطينية، وهو الدكتور وليد سيف، وبعض الممثلين من سوريين وأردنيين أصولهم فلسطينية، لكنه أيضاً بإخراجه وإنتاجه وصناعته هو “مسلسل فلسطين الذي لم يصنعه الفلسطينيون”.
لكنّي لم أشعر أبداً أن خالد تاجا ليس جدّي الطيّب، وجمال سليمان ليس أبي الثائر، فالمسلسل أتقن فلسطنة كل شخوصه وعناصره وأدواته وأماكنه.. أزعم هذا لأني شاهدتُ فلسطين في زيارات عديدة، ورأيتُ هناك جوليت عواد في طوابينها وحواكيرها وحاراتها الترابيّة، ولو زرتُها غداً لبحثتُ عن كاميرا سريّة لـ حاتم علي بين أحجار سنسلة.
كان “التغريبة” مسلسلاً أنتج عام 2000 بعنوان شائع في الدراما القديمة هو “الدرب الطويل”، لكنّه كان فقيراً بإنتاجه، وتقليدياً في إخراجه، وأغلب أماكن تصويره كانت داخل الاستديو المفرغ من الهواء. فشل المسلسل، كاد يدفع وليد سيف لاعتزال الكتابة الدراميّة، قبل أن يلتقي بـ حاتم علي ويصنعا مجداً درامياً لا يُمّحى، وكنتُ واحداً من صُنّاع فيلم وثائقي عن هذه الحالة الدرامية الثنائية.. الأجمل من ربيع في قرطبة.
لا حدّ ولا وحدة لقياس جماهيرية مسلسل التغريبة الفلسطينية اليوم، ففي السنوات التي تلت عرضه الأول، اختزلت الرجولة في كنية “أبو صالح” وشاربيه، وذرفت الناس بكاء ساخناً على النكبة كأنّها حدثت عام 1998، وهذه أغنية “لا تسل عن سلامته” تصير في خمسة عشر عاماً تراثاً فلسطينياً، وربّما لو اقتصر تاريخ الملحّن الحلبيّ طاهر مامللي على موسيقا هذه الأغنية لاكتفى من المجد بطرف واحد.
لم أشاهد “التغريبة الفلسطينية” في العرض الأول عام 2004. كان أبي متوفياً منذ أشهر، وكان لدينا تلفاز قديم ومعيبٌ، اهترأت ألوانه، وتداخلت مثل لوحة طفل عابث. كنّا فقراء كما أذكر. خجلتُ منذ الحلقة الثانية، حين كان في منزلنا ضيوف وتعذّرت عليهم المشاهدة السليمة، فغادرتُ البيت مقهوراً، ولم أشاهد التلفاز حتى جرت النقود بين يدي بعد عام واحد، فكان أول ما اشتريت تلفازاً ولاقطاً فضائياً.. ولم أشاهد “التغريبة” فيما بعد رغم عرضها المكثف على الفضائيات.. ربّما كي لا أتذكّر سيرة الفقر.
وبعد خمسة عشر عاماً على العرض الأول، شاهدتُ المسلسل بقناة الدمع، بالألوان الحقيقية للنكبة من خلال تلفاز فائق الذكاء بحجم ثلث جدار.. فقد صرتُ غنياً، ربّما لأنّ “تغريبتي” طالت.