قبل زمن وجّه الكاتب وحيد حامد نصيحة بجَمَل إلى عادل إمام. كتبَ إليه على الملأ: “عليكَ أن تتحلى بشجاعة الاعتزال”. حامد الذي كتب تسعة أفلام مهمّة كان بطلها عادل إمام (بعضها شديد الأهمية) ومسلسلاً واحداً هو “أحلام الفتى الطائر”، بدا آسفاً على صورة الزعيم الأخيرة. مسلسل في كل سنة، يهوي به، ويفسد حُسْن الخاتمة الفنية، فكرّر حامد في رسالته الرجاء لإمام أن يعتزل: “الاعتزال سُنّة الحياة”، وضرب مثلاً في لاعبي كرة القدم، وقال شيئاً عن الأعمار الافتراضية.
لكنّ الزعيم، وأيّ زعيم هنا في الشّرق، لا يسمع. يرى فقط صورته بالأبيض والأسود على أعمدة الكهرباء، وفي الصفحات الأولى والأخيرة في الصحف القومية، وبالأوقات كافة على كلّ المحطّات الهابطة من الفضاء. وإن فعّل حاسة السمع، فلكي يسمع صوته وحيداً في ساعات الذروة، وبفواصل إعلانية تؤكّد أنّ أجر الزعيم بلغ أربعين مليون جنيه، لحبكة يكتبها غالباً يوسف معاطي في خمسة أيام، في حديقة شبه القصر. أربعون مليون جنيه، لم تبلغها كلّ ميزانيات واحد وعشرين فيلماً لـ عاطف الطيّب، المخرج العظيم الذي لم يعمل معه عادل إمام.
يكتب المؤلف، وغالباً ما يكون يوسف معاطي “الحدوتة” كما جاءت بالحرف والفاصلة والخطأ النحويّ على بال عادل إمام. وله بالطبع حقّ الإضافة والتعديل، فهو في تتر البداية “المؤلف” واسمه يُكتب باللون الذهبيّ الخالص. وفي مراحل الكتابة عليه أن ينتظر مكالمات منتظمة من الزعيم لتدوين أيّ فكرة جاءته في ساعات الوحي المتأخّرة، أو أيّ شخصية يريد التخلص من صاحبها بموت فنيّ سريع، وربّما يكون شاهد ممثلة شابّة، فيطلبُ من معاطي تفصيل دور لها، وليس للمخرج (وهو غالباً ابنه وطاعة الأب أمرٌ إلهي) سوى أن يقول: آكشن!
بدأ عادل إمام مواسمه الدرامية بتشكيل فرقة ناجي عطا الله، لسرقة بنك إسرائيلي. تفاعل الأطفال بالضحك المتواصل مع أحداث المسلسل، وإنْ رأوا فيه مبالغات، وثغرات، لكنّ جرعة الكوميديا كانت معقولة، رغم أنها ليست بحجم زعيمها. أصبح فيما بعد “العرّاف”، المحتال في حبكات خفيفة العقد، ثمّ “صاحب السعادة” الذي فشل لثلاثين يوماً في أن يضحك فئات عمرية أخرى، وفي تحوُل مفاجئ كان “الأستاذ ورئيس القسم”، المناضل والمثاليّ وأبُ الجميع، والممثل الشرعي والوحيد لثورة 25 يناير، وهذه الكوميديا الوحيدة في كلّ الدم الثقيل الذي أراقته “الشاشة الأولى”.
ثم كان مأمون وله شركاه وهم في أغلبهم بدلاء لـ شركاه السابقين الذين انتهت أعمارهم الافتراضية بعد الخامسة والسبعين، فقد مات سعيد طرابيك، ويوسف داوود، ومصطفى متولي، ويوسف عيد، وأحمد عقل، وعلي الشريف، وآخرون كانت أدوارهم تقتصر على تلقي الصفعات من السجين المشاغب أو الضابط الخارج عن القانون. يجلس عادل إمام الآن مكان المخرج (وطاعة الأب أمرٌ إلهي) يُوجّه “شركاه” الجدد كما كان يفعل مع “شركاه” الراحلين. ثمّ جاءت مسلسلات أخرى كان لها أسماء “عفاريت” و”علاّم” لم يتابعها أحد، فقد انفض الجمهور عن الزعيم الذي قالوا له “كفاية” و”ارحل يعني امشي”.
متى سيعود الزعيم مواطناً عادياً. متى سيقول برجولة ناصريّة: “لقد اتخذتُ قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه”، ويتنحّى، ويرجع إلى “صفوف الجماهير”، ويقبل بأن يكون جَداً مُعمّراً يموت في الحلقة الثالثة بمضاعفات الضجر. ما الذي يجرح قبل سنّ الثمانين وبعده أن يُكتب اسمه في قائمة قصيرة لضيوف الشرف بجوار إنعام سالوسة. لقد قال الزعيم كلّ شيء في مائتي فيلم، فما المعيب من أن يجلس في بيته ببيجامة مقلّمة، يشاهد نيللي كريم، ويقبل بدور محدود لأب يظهر في الفلاش باك.. هذه مجرّد نصيحة بـ “دكر بط”!