“أنا كاتب”، صحيح أنّي تردّدت سنوات للإقرار بهذه الصفة، إلاّ أنّها لازمتني سنوات أخرى طويلة مثل الشامة الطارئة. كنتُ كاتباً في زمن الورق الأصفر، ثمّ المصقول، والزاوية الصحافية التي تقصّ من الصفحة الأخيرة وتعلّق مثل الحكم القديمة على جدار زيتيّ أو ورديّ. لن أطيل الشرح لأملأ هذه الزاوية، أريد أن أبدأ من هنا، من الخاتمة، فقد كتبت عن ثورة لكنّ أصابعي لم تُحرق، ولم تُغمّس بالأسيد، ولا انتزعت أظافرها.. كنتُ كاتباً مرفّهاً أكتبُ على أزرار سوداء، وآكل البندق المقشّر.
“أنا كاتب” وأنا أيضاً في ورطة، إذ أنّي صرتُ ملزماً أن أظلّ متحفّزاً للإجابة عن أسئلة الثقافة العامة التي تواجه الكاتب في الأعياد والمآتم (وتكون بقصد الاختبار) فلا بدّ أن أعرف أسماء جارات فنزويلا بالترتيب أفقياً وعامودياً، ومن اخترع الراديو والمولينكس، وفي أيّ صفحة سوداء مات أنكيدو، ومن هزم الكويت في مونديال إسبانيا، وأعدّدَ ثلاث طرق لإعداد البيض المقلي بمكعبات البطاطا، وأن أسمّع غيباً تاريخ النزاع على سبتة ومليلية، وإنْ أخطأتُ في يوم وفاة عباس بن فرناس فإنّي كاتب نصفَ كُم.
ولأنّي كاتب أيضاً فقد كان مطلوباً منّي في تحضيرات زفاف الأصدقاء أن أحفظ ما يبدو شعراً يُكتب بالخط الذهبي على بطاقات الأفراح، وأن أخرج في أيّ أزمة من جيب معطفي ديباجة صك صلح عشائري، وأتوقع في ساعات المساء الأولى أن يستعين بي الجار الثامن لكتابة درس الإنشاء عن الطفل النابغة الذي أصابته عين حسود.. وإنْ فشلت، أشكُّ في كلّ رسائل الحبّ في بريدي، بل إن قريباً جعلني أعيد النظر في كتاب لي كان قيد النشر، لأنّي رسبتُ في كتابة النعي بأسماء الأشقاء والشقيقات والأنسباء في الوطن والمهجر.
عليكَ، أيُّها الزميل الكاتب، أن تدرس تاريخ بيزنطة وتسقطه على حاضر جبل اللويبدة، وتعرف دورة حياة دودة القز بالساعات والأيام، وأين تزدهر صناعة الغزل والنسيج، وتقرأ أبعاداً وراء البحر بصراع قبيلتين في الصحراء الليبية. لا تقل إنك تجهل ما يحدث في البرازيل، وكم يساوي البيزو الأرجنتيني أمام الدولار، فأنتَ كاتبٌ وينبغي أن يكون لديك تفسير شامل في أيّ خبر عاجل، وإجابات تسابق غوغل، وياهو في مجده القديم، ولا تقل إنك لا تدخن ولا تشرب القهوة المُرّة، فلن تعود كاتباً ولو عرفتَ ما الذي جرى في إيطاليا.
“أنا كاتب”؟! لستُ متأكداً، فلا أصابعي محروقة، ولا هي منزوعة الأظافر. قبل سنوات طويلة كنتُ متوهماً أن مقالة أو قصّة قد تُسقط وترفع، وقد تقدّم وتؤخّر، وتهدم ثمّ تبني، واليوم أكتب على أزرار سوداء عن محاسن الموت قبل الخمسين، وأتلقى في البريد رسائل حب، وعاشق يطلب أن أكتب أغنيات إلى حبيبته، وامرأة تسألني إن كان الرجال كلهم مثل طليقها، وفتاة مستعدة للانبهار إن تكلمتُ أو سكتّ. وليس الأمر في المحصلة سيئاً، أقصد أستطيع أن أظلّ كاتباً من دون أن أعرف من هنّ جارات السيّدة كينيا.