هذا ما حدث تماماً من دون اجتهاد سردي: في صباح ما، في مطار عربي، بانتظار ممل للطائرة المتجهة إلى بلد سياحي، جلسَتْ أمامي على مقعدين متقابلين أسرة عربيّة صغيرة، مكوّنة من رجل أربعيني بلحية خفيفة نابتة ربّما من ضجر وإهمال ثلاثة أيام، وطفلة عابسة بلا سبب واضح، محجّبة تبدو أقرب لسنِّ العاشرة، وطفلين يصغرانها متقاربين في العمر والمرح، وامرأة منقّبة.
والمشهد باكتمال ضروريٍّ للتمّمة: كان على يميني رجل سويديّ يقرأ رواية “المئوي الذي هبط من النافذة واختفى”، وعلى يساري أفريقي يُحرّك أصابعه بخفة على شاشة آي باد لا تكفُّ عن إشاعة ألوان حارة. ورائي كانت مجموعة منسجمة من رجال البلد الذي أقصده، مندمجين في حديث صاخب لا يُناسب السابعة صباحاً. وهناك أيضاً حركة نشطة لعمّال من شرق آسيا في الممرّ بين مقعدي ومقعدَيْ العائلة.
عاد الأب من المتجر الأميركي لبيع شطائر لحم البقر. وزّعَ الحصص الدائرية بورق القصدير على عائلته. تركتُ هاتفي، وراقبتُ بفضول كثيراً ما كاد يرميني على مشارف القتل، كيف ستأكل الزوجة المنقبة طعامها. رفعتْ النقاب تماماً عن وجهها بحركة سهلة لا توتر فيها ولا ترقب، كأنها الآن أصبحت في بيت شقيقتها، أو جارتها الموثوقة، وتحوّلتُ أنا، والرجل السويديّ، والأفريقيّ، والعرب من خلفي، إلى محارم أو أقرباء من درجات متفاوتة، حتى المارة من خلف الجدار الزجاجيّ إلى جهات السفر الأربع صاروا كأنهم إخوة غير أشقاء.
خلعتْ النقاب. لم يكن وجهها فاتناً، لها ملامح ريفيّة شائعة على ضفاف النيل، لكنّها لا تكسر رقبة الناظر وتعيده من الذهاب إلى الإياب، ولا تجبر قارئاً سويدياً عن إهمال مصير رجل مئوي هبط من النافذة واختفى، ولا أفريقياً مغرماً بألعاب صاخبة من متجر أبل. تأمّلتها في نظرة ثانية، ملامح متداولة في الأسواق الشعبيّة، لسيّدات مكافحات يحملن الفاكهة الحامضة بأيد مشقوقة، لم أجد ضرورة لإخفائها باللون الرماديّ السميك، لكن الزوج، صاحب اللحية الخفيفة النابتة ربّما من ضجر وإهمال، يبدو أنه فرض عليها النقاب، أو أباها المؤذن، شرح لها الفرق الرفيعَ بين النقاب الشرعي ونقاب الفتنة، فارتدته. لكنْ لمَ خلعتْ النقاب؟!
ارتدته لتمنع نظر الرجال المحرّمين شرعاً. لكن المسافر السويدي تأملها، ثم عاد لمتابعة مصير الرجل المئويّ، والأفريقي عندما انتهت لعبة “طارد الأشباح”، نظر إليها وانتبه أنها خلعت النقاب، فأطال النظر، والعمال الآسيويون المناوبون أيضاً أتيح لهم رؤيتها بانتظار جمع أوراق القصدير، وكلّ الرجال المسافرين إلى الجهات الأربع، رأوها. ارتدت النقاب وراء صوت يُذكّر ركّاب الطائرة المتجهة إلى البلد السياحي بسرعة التوجه إلى الباب. نظرتُ إليها من جديد، حاولت أن أجد فرقاً واحداً بين إحساسي عندما رأيتها سافرة الوجه، أو منتقبة، فعدتُ محايداً لقراءة خبر علميّ في هاتفي المحمول.
الطائرة هبطت في البلد المقصود، وربّما كان هناك وقوف اضطراري، حتى موعد طائرة أخرى، ستجلس العائلة في باحة أمام المطعم الصينيّ، وأمامها رجل يكاد يرميه الفضول على مشارف القتل، وقارئ اسكندنافيّ، ولاهٍ أفريقي، وعمال ومارة وعرب. خلعتْ النقاب، لم أر ذلك، لكنّي شعرتُ به حين أغلقتُ الهاتف المحمول، وانشغلتُ بحكّ لحيتي المهملة.