كتب: عماد الدين موسى
ينتمي نادر رنتيسي إلى جيل من الكتّاب الفلسطينيين الذين انفتحوا على الصحافة والأدب معاً، فمزجوا بين الدقة الإخبارية والقدرة على السرد. وُلد في الكويت عام 1979 وسط بيئة مشبعة بذاكرة اللجوء، فترسّخت في وعيه فكرة الغربة بوصفها جزءاً من التكوين الشخصي. درس الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك الأردنيّة، وأكمل مسيرته المهنية متنقّلاً بين مؤسسات إعلامية متعددة، حتى استقر في أبو ظبي حيث يواصل الكتابة.
أصدر عدة كتب قبل “بنصف الفم الملآن – شبه سيرة”، وأثبت حضوره ككاتب يميل إلى تحويل التجربة الذاتية إلى مادة إنسانية تعكس هموم الفرد والجماعة، حيثُ يكتب بلغة متينة تجمع بين البساطة والعمق، بين العين الصحافية الملتقطة للتفاصيل والخيال الأدبي القادر على إعادة صياغتها.
يقدّم عنوان “بنصف الفم الملآن” مفتاحاً لقراءة النص، فكلمة “نصف” تشير إلى الخصوصيّة الذي ولِد بها الكاتب، وهو الشفة الأرنبية التي جعلت الكلام ناقصاً، بينما كلمة “الملآن” تحمل معنى الامتلاء بالذاكرة، بفائض من الحكايات التي تتدفق من هذا النقص. ليعلن النص منذ بدايته عن توتر مركزي بين نقصان الجسد وفائض اللغة، بين الكلام المبتور وامتلاء السرد.
هذه المفارقة تتعلق بالوجود الفلسطيني في الشتات، حيث يعيش الفرد دائماً نصف حياة في بيت مؤقت، ويحمل ذاكرة ممتلئة بالمكان الأول. من هنا يغدو العنوان استعارة واسعة عن جيل كامل يكتب من موقع النقص، لكنه يصرّ على صياغة الحكاية حتى آخرها.
تدور أحداث “بنصف الفم الملآن”، الصادر عن الدار الأهليّة في عمّان، ضمن فضاءات ممتدة من سبعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الجديدة، متنقلة بين الكويت وسورية والعراق والأردن؛ تبدأ من لحظة الولادة في مستوصف بالكويت، حيث وُلد الراوي بشفة ناقصة، وتستمر عبر تفاصيل الطفولة في أحياء الجاليات، ثم تنتقل إلى مشهد أكبر هو الغزو العراقي للكويت وما ترتّب عليه من هجرة واسعة للفلسطينيين.
يتابع النص مسيرة عائلة كاملة تجرّ حقائبها بين المنافي، من بيت إلى آخر، ومن عمل إلى آخر، في مواجهة خيبات السياسة وضغط الظروف؛ ثمّة مشاهد شخصية كغرف العمليات والصفوف المدرسية، ثم يتوسع ليشمل مشاهد عامة كالمخيمات والحدود والمعابر. من خلال هذا الامتداد تتحول السيرة الفردية إلى لوحة جمعية عن الشتات الفلسطيني، حيث يتقاطع الخاص مع العام، ويتحوّل الجسد الفردي إلى مرآة للجسد الجماعي.
يصوغ الكاتب النص بوصفه “شبه سيرة”، أي أنّه يوثّق حياته الشخصية ويضمّ تفاصيلها ضمن سياق جماعي متسلسل، بدءاً من ولادته في الكويت عام 1979، وطفولته الموزّعة بين العمليات الجراحية ومشاهد العائلة، ثم انتقال الأسرة إلى الأردن بعد حرب الخليج، كلها أحداث تتجاوز حدود الفرد لتصبح جزءاً من سردية الفلسطينيين في الشتات. في مقطع بارز يقول: “خرجتُ من المستوصف بشفة ناقصة.. لكني سأكون رقماً يرجّح كفة الذكور على البنات بين أحفاد جدّي”.
يكشف هذا المقطع أنّ الفرد يُنظر إليه ضمن إطار الجماعة، طالما أنّ العيب الجسدي الشخصي يُدمج مباشرة في ميزان العائلة. الجسد الناقص هنا يتحوّل إلى دلالة على كيفية حضور الفرد داخل سياق أكبر منه، وهو ما يعكس جوهر النص: الخاص والعام متداخلان على نحو لا ينفصل.
لغة النص وبنيته السردية
تقوم لغة رنتيسي على استحضار الحواس والالتقاط الدقيق للتفاصيل؛ أصوات الممرّضات، رائحة الأطعمة، أسماء العمارات، ألوان السيارات، كلها تدخل في نسيج السرد لتبني ذاكرة مكانية ملموسة. يتقدّم النص عبر شبكة من الاستعادات، حيث يتناوب صوت الطفولة وصوت المراهقة في إعادة تأويل الماضي. يسير الزمن كنسيج متقطع يقترب من إيقاع الذاكرة نفسها، لا كخيط مستقيم. تمنح هذه البنية النص طابع البوح الشفيف المفعم بالخيال، إذ يقترب من السيرة الذاتية ويستعير تقنيات الرواية مثل الحوار وبناء المشهد. ومن خلال هذا المزج يصوغ الكاتب نصاً هجيناً يفتح مساحات واسعة للتأويل والقراءة.
يحتل الجسد موقع البطولة في النص؛ الشفة الأرنبية والعمليات الجراحية المتكررة تجعل الجسد ساحة للمعاناة والتجربة، فيما الألم هنا يتجاوز حدود التجربة البيولوجية ليحمل دلالة استعاريّة عن الوجود الفلسطيني الممزق. في مقطع آخر يقول: “سآكل حتى تسقط الخيوط اللحمية من سقف الحلق، وأعرف أنّ العملية قد فشلت، وأني أذنبتُ حين سرقت الطعام قبل التخدير”.
يربط المشهد السابق بين الألم والذنب، فيتحوّل العطب إلى عقوبة غير مفهومة. النقص الجسدي يصبح معادلاً للنقص الوطني، ومحاولات العلاج الفاشلة تشبه محاولات العودة التي تتعثر. ومع ذلك يظل الجسد يقاوم ويعيش، كما يظل الفلسطيني يتشبث بالحياة رغم الهزائم.
يظهر الأب في النص كشخصية مأزومة، تعكس تناقضات جيل كامل؛ عمل في وظائف متواضعة بالكويت، انجذب إلى الماركسية، أحبّ ممرضة سورية ثم تزوج من ابنة قريته، عاش بين الحلم الثوري وضغط الواقع. تعكس هذه الصورة مصير جيل حمل شعارات التحرير لكنه وجد نفسه في أزقة المنفى.
يمثّل حضور الأب الخيبة التي تترك أثرها في الأبناء، وليس حضور السلطة القوية. من خلاله يلمّح النص إلى أنّ الثورة لم تكتمل، وأنّ الأحلام الكبرى انتهت إلى تفاصيل حياة يومية شاقة.
تمثل الأم بدورها، مركزاً عاطفياً ثابتاً، ترافق الطفل في المستشفيات، تحميه من نظرات الآخرين، وتهمس دائماً أنّ “الله يحبك”، ما يمنح الطفل معنى يحميه من الانكسار، رغم أنها تفتح سؤالاً صعباً عن طبيعة المحبة الإلهية حين تقترن بالعذاب. تحوّل الأم الألم إلى علامة نعمة، وتجعل من النقص طريقاً للتماسك. من خلال هذا الحضور تصبح رمزاً لصلابة المرأة الفلسطينية في المنافي، التي تصنع بيتاً بالكلمات حين يفتقد البيت المادي.
المنفى المتكرر والذاكرة المكانية
يتكرر المنفى في الكتاب كقدر ملازم، إذْ عاشت العائلة في فلسطين ثم استقرت في الكويت، وبعد الغزو العراقي اضطرت إلى الرحيل نحو الأردن. يعيد كل انتقال فكرة أنّ البيت مؤقت والوطن مؤجل، يستعيد النص مشاهد الطوابير على جسر الملك حسين، والتفتيش عند المعابر، ودموع الأم. هذه التفاصيل ترسم خريطة للتهجير المتواصل، حيث يصبح الفلسطيني في نصف بيت دائماً، كما يتحدث الكاتب بنصف فم.
تشكّل المدرسة مسرحاً لمواجهة الجسد المختلف مع المجتمع. الأطفال يسخرون من فم الراوي المخيط، والمعلمات يتجاوزنه في القراءة. اللغة تتحول إلى وصمة، إذ يصبح النطق علامة على النقص. حرمان الطفل من القراءة في الصف يجعله يشعر أنّ نصف صوته مسلوب. اللغة المبتورة تقابل اللغة المكبوتة سياسياً، حيث النصف الآخر مسجون خلف رقابة وأحكام. بهذا يتضح أنّ “نصف الفم” يمثل رمزاً لكلام مؤجل، ولا يقتصر على وصف جسدي.
يرفض الكاتب تصنيف كتابه وحصره في جنس أدبي واحد، فهو يستند إلى وقائع حقيقية مما يجعله قريباً من السيرة الذاتية، لكنه يستخدم تقنيات الرواية من وصف وبناء مشهد وتشخيص. هذه الكتابة الهجينة تمنحه طاقة مضاعفة، إذ تسمح له بالبوح الشخصي وإعادة تشكيل الذاكرة فنياً في آن واحد. القارئ يخرج بانطباع أنّ النص شهادة ذاتية لكنها مشغولة بلغة روائية تحوّل الاعتراف إلى أدب.
تحضر السياسة في النص كظلّ دائم. حرب الخليج الثانية عُرضت كلحظة فارقة دفعت العائلة إلى الرحيل. الانتفاضة الأولى ترد عبر صور التلفزيون ودموع الأم على أخيها المعتقل. السياسة هنا قوة تتحكم بمصير الأفراد: في البيت، في المدرسة، وفي فرص العمل. يقدّم الكاتب كشفاً عن أثر الخطابات السياسية في تفاصيل الحياة الصغيرة. من خلال هذا الحضور يتجسد كيف تتحول الأحداث الكبرى إلى تفاصيل يومية تشكّل وعي الفلسطيني.
الأسلوب بين التهكم والحزن
يمزج رنتيسي بين التهكم والحزن، فيتم وصف الأب أو الجد أو المدرسة أحياناً بنبرة ساخرة تكشف هشاشة الموقف، لكن خلفها حزن دفين يطفو على السطح، ما يجعل النص نابضاً بالحياة، إذ يترك القارئ يتأرجح بين الضحك والأسى. الصور الحسية الكثيفة تضفي عمقاً إدراكياً، حيث تتحوّل القراءة إلى تجربة حسية يعيشها القارئ كما عاشها الكاتب. النص مكتوب بجسد كامل حتى وإن كان ناقصاً، وهو ما يجعل التجربة مؤثرة وعميقة.
يجمع نادر رنتيسي في “بنصف الفم الملآن” بين الحميمي والسياسي، بين الجسد الفردي والذاكرة الجمعية. النص يكتب العطب الجسدي بوصفه استعارة عن العطب الوطني، ويحيل التجربة الفردية إلى مرآة لتجربة شعب كامل. الجسد الناقص يتحوّل إلى مساحة لإنتاج المعنى، والمنفى المتكرر إلى مادة للسرد. الأم تحضر كذاكرة أليفة تمنح للألم معنى، والأب يجسد خيبة جيل مأزوم. اللغة المبتورة ترمز إلى الكلام المسكوت عنه سياسياً، والسياسة تتسرّب إلى تفاصيل البيت والمدرسة.
يغدو نصف الفم الذي يتحدث به الراوي فماً كاملاً في اللغة، لأنّ الكتابة تعوّض النقص بالامتلاء، وتحوّل الندبة إلى نص. يوازن الكاتب بين الاعتراف الشخصي وإعادة صياغة الذاكرة الجمعية، ويؤكد أنّ الأدب قادر على أن يملأ الفراغ الذي يتركه الجسد، وأن يمنح للذاكرة حضوراً يوازي حضور الواقع، فيغدو النص شهادة عن الألم والنجاة معاً.

