قبل جائحة كورونا، وذكرها السيئ، كنت أغسل يديّ بصابون ديتول السائل، بلون بنفسجي مثير، في حمّام واسع للاستعمال الشخصي، غالباً. أنشفهما ثم أشمّهما مثل من يختبر جودة نبيذ فرنسي، ولما لا أطمئن لقتل الجراثيم العنيدة، أعيد الغسل، وأتبعه بمعقم كحولي. لكني، وهذا كله قبل عطسة “ووهان” القاتلة، كنت أعيد كل هذه الطقوس في المغسلة الخارجية، بعد أن قرأتُ خبراً علمياً صاعقاً يقول إن مقبض باب الحمام يحتوي على عشرة أضعاف جراثيم المرحاض.. ولم أعترف أني أعاني من وسواس النظافة القهري، كأي مريض، غاضب، مُنكر، ومُكابر.
أيضاً قبل نكبة كورونا، التي لم تقتصر على الفلسطينيين، كنت أتجنّب تقبيل الرجال، ما أمكن، فاعتذرت أحياناً بالإنفلونزا الموسمية، أو بالتهاب القصبات المزمن، وإن نفدت الأعذار الصحية، أستعيد فتور الود الذي لا أستطيع إخفاءه ولو بلحية أفغانية. وكنت قبل عطسة ووهان القاتلة أقاطع حفلات الزفاف لأني اعتقدت، اعتقاداً لم يتأثر بفوبيا الفيروس، أن الزواج شأن ثنائي، مثل الطلاق. كما لم أذهب في السنوات الأخيرة إلى بيوت العزاء، الداخلية أو الخارجية، واقتصر حزني على فراق أيّ عزيز بالاستماع بتأثر مبالغ لنواح عراقي على فراق “العزيز”.
وقبل تسونامي كورونا، الذي لم يعد فقط شأناً يابانياً، كنت أغلق باب بيتي، ونوافذه، وشرفته. أعتزل الناس مثل سياسي خاسر، أقضي الوقت بتقليب صفحات الإنترنت، وشاشات التلفزيون. أختم سماع الكلثوميات، وأشاهد كل أجزاء ليالي الحلمية، وأفلام عاطف الطيّب. ألعب مع نفسي الشدّة، أربح فأخسر ولا أحزن، ثمّ أعدّ الطعام الذي لا يكون سبباً بتقصير الحياة. قد أغضب أحياناً، فأغلق الهاتف على مكالمة لحوحة تزعم افتقادي. كنت أعتقد أن هذا ما يُدعى خلوة أو وحدة أو تصوفاً، وبعد عطسة ووهان القاتلة، عرفت أن هذا ما يُسمّى أيضاً “الحجْر الصحي”.
وقبل زمن كورونا، الذي يصلح للحبّ أيضاً، مثل زمن الكوليرا، كان لدي قلق وجودي مثل كل الذين لم يخرجوا في المظاهرات للمطالبة بالحرية، أو لم ينخرطوا في المقاومة الشعبية لقتال المحتل، فكنت أخشى من الموت بسرطان البروستات أو السكتة الدماغية المبكرة، وكانت أشد الكوابيس أن أقضي بتصادم قطار بين القاهرة وأسوان، أو حادث سير متهور على الأوتوستراد بين الزرقاء وعمّان. قبل عطسة ووهان القاتلة كنت أخشى موتاً صامتاً بالسكّري، ولما نجوت من كل هذا، تخيّلتني لما تصير عظامي هشّة، جثة على سيراميك الحمام.
أما الآن، وأنا أعيش في عصر كورونا وما بعد كورونا.. أفكّر جدياً بالذهاب إلى طبيب نفسي للعلاج من وسواس النظافة القهري، كأي مريض، مساوم، كئيب، وراض.
(الكاتب غير مسؤول عن انتقال العدوى من خلال لمس المقال)