ذات صلة

الحيّ الشعبي في فيسبوك

هم فئة ترونها قليلة، بعدد سكان حيّ شعبيّ في القاهرة، وبعدد من ولدوا في سورية قبل خمس سنوات ولم يعرفوا الشّام، ربما هم أكثر من مشجعي فريق الترجّي التونسي، وبالنسب المئوية يتفوقون على نسبة مشاهدي المسلسلات التركيّة، ويصدقونها، يمكنهم أن يشكلوا رابطة حُرّة أو نقابة عامة أو جمعيّة خيرية. قبل عشرين عاماً كانت تخاطبهم الصحف الرسميّة والإعلانات التلفزيونية الملوّنة: عزيزي المواطن، وكانوا بذلك مكتفين.

وعندما أنشأ طالب يهودي أشقر برنامجاً سحرياً للتواصل الفوريّ بين طلاّب وعشّاق في جامعة هارفارد، وأصبح البرنامج شبكة بحجم خيمة زرقاء تخطّت حدود كامبردج، حتى وصلت إلى أحياء شُبْرا، والسبالة، والحجر الأسود، والنقرة، وجبل النصر، والناصرية، وسنّ الفيل، بقيت هذه الفئة ملتزمة بمواعيد وأماكن الحوار السياسيِّ في زيارات الأعياد، وسرادق العزاء، وسيّارات الأجرة، وطوابير دعم الخبز، وفي أيّام السُّبات الزوجي.

دخل فيسبوك المدن العربية قبل عقدين بصمت كشحنة كافيار، فاستنكفت عن دخوله فئة هي أكثر من زوّار القاهرة في النهار، ومن الذين يحفظون نشيد موطني، ويخجلون من السؤال عن معنى مجده التليد. كان فيسبوك حكراً على خريجي النظم المعلوماتية، وبضعة شعراء نثر وهايكو متخاصمين، وقرّاء راضين بمهنة التذوق الأدبي، وفتيات باحثات عن الحرية أو خواتم ذهبية، وفتية يناير الذين خلعوا كرسي الحُكم من تحت أبو الهول.

وتماماً، تماماً مثلما حدث في عمارة يعقوبيان، وبصوت يحيى الفخراني: “طبعاً تغيّرت التركيبة السكانيّة”، فقد دخل إلى الأرض الزرقاء تجّار وزبائنهم، شيوخ ومريدوهم، لاعبون ومشجعوهم، سياسيون وأطفالهم، راقصات وصبيتهن، لصوص ومساعدوهم، وزراء سابقون وحاملو أضوية فوق رؤوسهم، فنانون متقاعدون بلا نهايات سعيدة، حتى اكتظت الأرض الموازية، بالأسماء الحقيقية والمستعارة، بالوجوه وظلالها، وصار هناك أسطح قريبة، وأزقة، وأبواب مدارس، وأسوار ملاعب.. وبذاءة.

“سكرين شوت” مرفقة بالدعوى القضائية، وطوابع، فحكم قابل للاستئناف بتشميع الصفحة الزرقاء. وهذا اختصار ضار بالحكاية، فقد كبرت الفئة، صارت أكثر من مشجعي برشلونة وريال مدريد معاً في مساء السبت، وأكثر ممّن يشاهدون فناناً عارياً بعضلات نافرة على يوتيوب، وأكثر بكثير ممن يعتقدون أنّ أصواتهم تصلح للغناء، وممّن ما يزالون مقتنعين أنّ السمك لا يقبل بالتمر هندي، ولا يهوى اللبن.

اقرأ مزيداً من التعليقات: وتبدأ بقراءة حرفيّة لـ حروب الشوارع والرّدح البلديّ، والعنف اللفظيّ، وتراقُ في “مزيد من التعليقات” الكرامات، والأعراض تنتزعُ حرمتها كقشرة الموز، ويتبادل شخصان التهديد الصريح، يقول الأول: “سأذهب بكَ وراء الشمس”، ويردّ الآخر: “انتظرني وراء مصنع المناديل”، تفهم أنّهما رجلان شجاعان، بل متهوّران، وأن دماء كثيرة ستسيل، حتى تنتبه أن اسميهما في حسابيهما الوردة البيضاء، وعاشقة بلا عنوان!

أين حدود فيسبوك عن حدود الأرض، حتى إنّ مسّاحي دائرة الأراضي الآن لا يملكون أيّ طريقة لفصل القطع الصفراء عن الزرقاء: هنا يسهر حتى الفجر الوزير السابق بانتظار منشور يعلن إقالة الحكومة، ويأتي متأخراً من وسط البلد كنفانيّ ليشرب القهوة مُرّة، ويلتقي هنا عاشقان، ويفترق عاشقان، ويتوعّد معارض قديم الحكومة الجديدة، ويستمع فتى خفيف اللحية لبيان داعش الأول.. وهُنا لم يعد يختلف عن هناك.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة