كان البشر زمان، قبل أقل من عقدين، ينتسبون إلى الجنس الأناسي، وزعمت كتب السلالات البشرية أن البشر هم الوحيدون من بين الحيوانات الذين يمتلكون عقلاً ودماغاً عالي التطور، ما يمكّنهم من التفكير المجرّد، واستخدام اللغة والنطق وغير ذلك من الميّزات والإضافات، مثل القدرة على الخروج من جنس إلى آخر، وحرية الانتساب إلى فصيلة الذبابية التي اشتكت من نوع جديد من ذباب المكاتب، ينافسها على الأزهار والروث وجلد الإنسان، وتذمّرت من البنية التشريحية التي تهين رتبة ذوات الجناحين، فرأسه خال من العيون، وموقعه معيب.
ومن دون تورية وتشبيه ضمني، فالمقصود ما يُعرف بـ “الذباب الإلكتروني”، وهم موظفون بمواهب محدودة، يشتهرون بالبذاءة والغباوة ورائحة الفم الكريهة، تقتصر مهامهم الوظيفية على السباب فوق أو تحت الزنار، والهتاف المدرسيّ في المناسبات الوطنية، وترديد أكاذيب أو حقائق منقوصة، مقابل راتب شهري مدفوع من ضرائب المشتومين. وكما يتكاثر الذباب بوضع البيض على المواد العضوية المتحللة، كالقمامة والبُراز، نشأت كتائب إلكترونية وقوات رديفة رخيصة وبلا رواتب، وهي مسمّيات صحافية لا تتمتع بالدقة، ولا يمكنها احتواء ما يفرزه الشبّيح والبلطجي والأزعر من رأسه في موقعه المعيب.
مهمة هؤلاء الشبّيحة والبلطجية والزعران أن يعاقبوك على رأي لم يُعجب ولاة الأمر أو الضابط المناوب، وأن يجبروك على الخروج في فيديو مكسور العينين معتذراً، وإن لم تعتذر فقد تحقق الردع، ولن تدلي برأي آخر، لكن إن تجرّأت فقد فتحت غطاء الصرف الصحيّ، أي المجاري بعيداً عن السامعين، وستُفضّ خصوصيتك، ويُعلن عن اسم أمّك الغريب، ومهنة أبيك البسيطة، وطلاق أختك المبكر، ستنتشر صورك نصف العارية على البلاج، وكأس الجعة الألمانية في يدك الخالية من الشعر، وهو تفصيل لن يمّر مروك الكرام أو اللئام.
ربّما تتحاشى المرور من أمام حاويات القمامة، أو الأكياس السوداء المنفردة، وقد تختصر الطريق التي آخرها جيفة، وتعتقد أنّك نجوت عندما لم تعد تغضب ولاة الأمر أو الضابط المناوب، لتنتقد أمين عام الحزب غير الجماهيري، فيحلّق الرفاق خلفك بأجنحة كلها داء، تعترض على جزئية في خطبة الجمعة، فتصبح حبل غسيل على “التواصل” بمختلف مواقعه حتى سهرة الخميس، تعلّق على صوت مطرب نخب ثالث في فندق نجمة رابعة، فينبش “الفانزات” تاريخك الطبيّ بحثاً عن خلل في خِلقتك، تسخرُ من رقص الراقصة، فيطاردك السكارى حتى تعلن “توبتك”.
هناك السوط الذي بيد شرطة الخيّالة في الشارع العام، فاسأل خرائط غوغل عن طرق السلامة، وهناك نسخة طبق الأصل منه لدى المارة في حواري السوشال ميديا، فاستعر اسماً وصورة تحمل عنك اللسع، وهناك أسراب ذباب تدخل إلى منزلك كلما فتحت هاتفك وفكّرت في كتابة مباشرة أو مؤوّلة، فاستعن بإحدى عشرة طريقة مجرّبة لمحاربة الحشرات ذات الرؤوس المُعيبة. اكتب، وغنّ، واصرخ، وارفع أي إصبع تشاء، وافتح مقبرة جماعية لكل فصائل الذباب المجنّحة والمُشبّحة، لكل حاذر أن تسقط ذبابة في صحنك.