“صَبيْ”، هكذا اختصرت الممرّضة نبأ قدومي إلى من كانوا ينتظرون عند غرفة العمليات. ورغم أنّ والدي سارع إلى تسميتي منذ اللحظة الأولى التي رآني فيها، واستوحى الاسم من علامة فارقة في وجهي، إلا أنّ الجميع اتفقوا على مناداتي بـ “الصَّبيْ”، حتى كبرتُ قليلاً، وكنتُ دائماً مريضاً، فيضجرُ الآخرون من بكائي الحادّ، ليستعِرَ النداء على أمّي لكي تأخذ “الوَلدْ”.
دخلتُ المستشفى مراراً، وكانت الإشارة إليّ دائماً بـ “المريض”، ولأنّنا جميعنا في المستشفى مرضى، فقد كان يتمّ تمييزي برقم الغرفة، ولما تستكينُ الممرّضة الآسيوية الصفراء لبلهها، أصيرُ محدّداً أكثر بوصفي المريض الذي ينامُ على السرير قرب الشباك. خرجتُ من غرفة العمليات وجاءني الطبيب، وسألني عن اسمي، فأجبته بحماس شديد، وبالمقاطع الأربعة. ظننتُ أنّه حفِظهُ (فقد قلتهُ مُمَوْسَقاً)، لكنّه أمر الممرّضة بحقنة إلى “المريض الشطُّورْ”!
عدتُ إلى البيت في السادسة من عُمْر شقيّ، فاستقبلني الأهل باحتفاء بعدما رمّمت العمليات طفولتي، وراحوا يشتقون من اسمي أسماء للدلال. لم يمتدّ شهر العسل طويلاً، إذ أفرطتُ في “الدَلعْ”، واعتقدتُ أنّ لديّ حصانة تتيح لي تطويع أثاث البيت لألعابي الغريبة، أو أنْ أتندّر على اسم أمّ ابن الجيران غير المستعمل، وهو “شمسيّة” في الصيف وفي الشتاء، فصار عليّ الإصغاء جيّداً لتمييز مناداتي، وهي تتبدّل كل يوم بأدنى أنواع الحيوانات قيمة.
ذهبتُ إلى المدرسة، وصارت صفتي لأكثر من عقد في حرَمها، وفي وسائل الإعلام، وإحصائيّات وزارات التربية والتعليم المتعاقبة، وفي أكثر من بلد مع فرق اللهجات “طالب”. وفي داخل المدرسة أو الجامعة يترفَّع المُدرّس غالباً عن مناداة الطلبة بأسمائهم، فيُنادي علينا بالصفات أو الملامح أو أماكن الجلوس: فهذا الذي في “الزاوية”، و”الطويل”، و”السمين”، و”أبو الشوارب” الذي في الإعدادية.
والطلبة يتمرّدون على أسمائهم، وكلّ واحد لديه لقب مجترح من علامة فارقة في شكله، أو من طرافة وغرابة في اسم العائلة، أو من شبه من الممثل القصير، السمين، الذي لا يجيدُ ترتيب الكلام. وكانت لي أسماء من العلامة الفارقة، وموهبتي الناقصة في الكتابة، ولم أحظ ببعض اسمي إلاّ حين تميّزتُ بلعب كرة القدم، وصار يناديني الأقران باسم لاعب شهير، فأكون “نادر زعتر”، باسمه دون شخصه.
وأحببتُ، أو ظننتُ ذلك، ثمّ عانيتُ من تجاهل الفتاة التي أحببتُها في محاضرة الشعر الجاهليّ، وربّما أحبّتني، أو توهّمتُ ذلك، لكني كنتُ أرى أن العقدة بأنّ ناقتها لم تهِمْ ببعيري، ولم تكن هي تشعرُ بوجودي قربها على بُعد مقعد شاغرٍ في محاضرة الغزل الماجن، وإنْ احتاجتني في مرّات قليلة، وأرادتْ مناداتي، فإنّها غالباً ما كانت تتلعثمُ، وتقولُ وأطراف أصابعها عند فمها: “محمد”.
وصارت لي امرأة أذاقتني الهوان حتى أحبّتني، وحين حدث ذلك كان ندائي المحبّب لديها، والذي يستفزّ ضحكتي من القلب “يا دِبْ”، وربّما تزوجتها، لستُ متأكّداً، لكنّي سمعتُ أناساً ينادونني “أبو أحمد” (حتى نسيتُ اسمي الذي كان مكتوباً في عقد الزواج الذي ربّما وقّعته)، وبتّ على يقين أنّي فقدتُ اسمي نهائياً، حتى وإنْ حدث أيّ تغيير على الحالة الزوجيّة، فإنّه سيهوي باسمي إلى درجة مطلّق، أو أرمل.
اشتغلتُ في وزارة، وكان لي ختم يحمل اسمي على أوراق المواطنين، لكنّي “الزميل” في النداءات الداخلية (ولديّ اسم مدخرٌ عند التقاعد). وصار لديّ حساب جارٍ في البنك فأصبحتُ من وراء حاجز زجاجي “العميل المحترم”. أدخلُ إلى “المول” الكبير فأكون “الزبون”، ولما أقفُ على باب المؤسسة الاستهلاكية المدنيّة بقيافة موظف بدرجة محترمة، أجدُ ملصقاً يخاطبني بمنتهى المهابة والتودّد: “أخي المستهلك”.
يحدثُ أنْ أغادر فندقاً أقمتُ فيه ليومين في سفر عاجل، أصيرُ خلالهما معروفاً بـ “النزيل”، وعندما أذهبُ إلى مكتب الاستقبال لإتمام معاملة الخروج، تعيد إليّ الموظفة الحسناء اللقب الذي منحتني إيّاه عند الدخول، فتخاطبني بودّ كثير الاستعمال: “مسيو”. أنا في الصيغة الصحافية، الجاني والمشتبه به، أو الضحية، وفي كثير من الأحيان أكون “المواطن الكريم”. وفي شرح الصورة حين تلتقطني العدسة عفواً، يُكتبُ:”(أحدهم) يخالفُ قواعد المشي على الرصيف”.
نسيتُ اسمي، فهو قليل الاستعمال والتداول، ومقطع ثان من خمسة مقاطع. ماذا أفعلُ به، يمكنني أنْ أخلعه قبل النوم كالسترة الجلديّة، ولا يلزمني حين أخرج في الصباح التالي إلى الشارع؛ فأنا إمّا أنْ أكون واحداً من المشاة أو راكباً من الركّاب أو سائقاً من السائقين. بل إنّي أستطيعُ السفر شمالاً من دونه، فكلّ ما يهمّ أمن الحدود أنْ يتطابق شكلي مع الصورة.
.. ها قد مضى نصف العمر أو أكثر من عُمْر، وكثيرة هي الأمنيات التي لم تتحقق، أو التي نسيتها في الهوامش البيض على شهادة الميلاد، لكنّي لا أزال أُراكمُ الأحلام، وأدفعُ بها إلى سكة الواقع، أخرجُ من الفندق، وأعودُ إلى البلاد، وأجلس صباحاً على مكتبي، أستعيدُ اسمي عند ختم الخروج. أنا في منتصف الظهيرة، وأقصى ما أحلمُ به الآن أنْ يذكرني الناس بعد موتي باسمي، ولا يتمّ اختصاري بـ “المرحوم”!