“كيف تصبح فيلسوفاً في خمسة أيّام”. بهذه الصيغة كانت تصدر كتب خفيفة تباع على الأرصفة مع كتب تفسير الأحلام وأهوال عذاب القبر. لكن هذا كان أيام زمان، عندما كان هناك من يسأل، ويطلب المعرفة، أما في هذه الأيام التي ستصبح يوما ما زمان، فلا أحد يوجه سؤالا إلاّ إلى السيّد غوغل، وإن أردتَ أن تصبح فيلسوفاَ ليس شرطاَ أن تطلب الفلسفة من “عين شمس”، يمكن مثلاَ أن تكون معلقاَ رياضياً سابقاً، وحارس مرمى تدخل الأهداف من بين قدميه، ثمّ تقرر بعد أن تغمرك الإضاءة أن تصبح زميلاً لـ جان جاك روسو.
أفتح أيقونة الرسائل لأجد فيديو. أشكّ في أمره. أبحث عن أمر الحذف، لكنّ العنوان مُغر ومشوّق على غرار “عبارات ستغير حياتك مائة وثمانين درجة”. ولأني بالفعل مللت من حياتي السابقة، الطائشة، الفاسدة، فتحت الفيديو مترقباً هذا الانقلاب الشمسي. لا شك أن الموسيقى التي تتصادم فيها الكمنجات، أرهبتني، أشعرتني أنّ “سقراط” سيخرج بلحيته الكثيفة التي في التماثيل، ويخاطبني بعينيه الرهيبتين، لكن التشويق لن يطول، وسيطل الرجل الذي طرأت عليه الحكمة، وقد زادت الإضاءة من شيبه، ليقول لي “تعلم من الفشل” و”الصحة أهم من المال” و”الشك مقبرة الحب”.. مع أغنية للسيدة الجزائرية.
كان في حياتي متسع لخمس وأربعين دقيقة، فاستمعت إلى الفيديو كاملاً، إلى الرجل الذي طرأت عليه الحكمة، وهو ينصحني كأني ابن أخيه، يلومني في مقطع تتصاعد فيه الكمنجات، وعندما تبكي النايات يوجّهني للتعامل مع الحبّ، ويخبرني بما هو مدهش وصادم، مثل أن الحياة زائلة، والمال لا يشتري لي وطناً، وعلى نحو مؤثر تتباطأ الصورة، والرجل يلوح مودعاً كأنه السلام الأخير، لأتفاجأ أن الفيديو لم ينته، وأن هناك حكم أخرى، مثل “امنح حبك لمن يحبك” و”امنح ثقتك لمن يكتم سرك” وأفعال آمرة أخرى أفقدتني توازني كأنه يصفعني ويُعيد تربيتي.
ما تظنّ أنها حكم يا صاح، يرددها أي صاحب دكان وهو جالس على كرسيّ القش، أي حلاق في وسط البلد أو أطرافها لديه رصيد من الأفعال الآمرة بلين، وأيّ سائق أجرة لديه قناعة بأن التعلم يكون من الفشل، حتى خالتك أو عمتك قالت لك في صغرك البعيد أشياء مشابهة (لا أشكّ أنك قد سطوت عليها). لكنّ الإضاءة، التصوير، البرنامج، القناة، والجمهور الذي يريد من يدلّه على كيفية تناول الأسبرين، هذا كله ما جعل من هذه المقولات “فلسفة” ومدخلاً إلى “علم النفس” من دون المرور بـ “عين شمس” أو قراءة عصر أثينا الكلاسيكي.
فيديوهات تفتح تلقائياً تقذفني بفلاسفة وحكماء ومؤثرين وصنّاع رأي وشهداء سابقين. لستُ مستاء كما تظنون، رغم أني لا أستطيع تفادي كل هذه “الفلسفة الزائدة”، إلا بالعودة إلى ما قبل الكهرباء. يمكنني أن أجد متسعاً لأربعين دقيقة أخرى في حياتي الطائشة، الفاسدة، وأجرّب بدافع الضجر قلبَها مائة وثمانين درجة. ليست الظاهرة سيئة تماماً، ففيها ما يعوّض التشبّع بالكوميديا المصرية القديمة، كل ما يقلقني هو كيف سيكون حال الميادين العامة في المستقبل، بعد مائة وثمانين سنة، أيّ ميدان سيتسع لكلّ هذه التماثيل؟!