تجاوز بسام كوسا بكثير أو قليل نصف قرن، الشَعر يؤكّد ذلك، فقد اشتعلَ، وانحسر كثيراً عن مقدمة رأسه، وفي جلوسه على الكرسيِّ في حوار تلفزيونيّ أمام المذيع الضحوك، يبدو منكمشاً كأنّ هذا أول خريف له في شيخوخة أرادها مبكّرة، ونهاية تخلى كتاب السيناريو عن كتابتها، فتصدّى لها الممثل، والقاص، والفنّان التشكيلي، والمخرج المسرحي، هؤلاء الذين اجتمعوا أخيراً في السياسيّ الذي بدا محتاراً كيف يخفي جلدة رأسه.
فكّر الممثل الحلبيّ في غطاء لرأسه في هذا الشتاء الطويل، “البرنيطة” لا تناسبه، فهي تتطلّب دوراً أرستقراطياً لم يعتد عليه “باجس”، الفتى البدويّ النزق الذي قاوم المخرز بالكفّ، في حكاية قديمة عن طغيان الإقطاعيّ غزوان الصفوح ذلك الذي تزوّج نورا وهي سمر سامي، شريكتُنا في الحبّ. أطلتُ الشرح، كنتُ أريد القول إنّ بسّام كوسا يفضّلُ بعد تجاوزه نصف قرن بكثير أو قليل، أن يضع على رأسه حذاء عسكر بشار أسد، وهذا شأنه القليل، لكن عليه أن يعتذر لنضال باجس ضدّ العبوديّة والسُّخرة، وحبّ نورا.
يقول الممثل النحيل، الذي اشتهر بأداء أدوار العاشق التعيس في الحبّ العبثيّ، والممنوع، والمستحيل، في بداياته اللافتة منتصف الثمانينيات، إنّ “لدى سورية رئيس واحد منتخب هو بشّار الأسد”، وهو قول جازم لم يكن متاحاً أبداً لـ سالم الذي يُتأتئ قبل النطق غير السليم، وهو يشرح لـ ندى، وهي أيضاً سمر سامي شريكتنا في الحبّ، حين أسنَد له المخرج دور الكومبارس الذي يُقتل في المشهد الأول، عندما كانت الثورة تبدأ بإيعاز من المخرج، وتنتهي حين يتدخّل الرقيب.
سألته ندى بعد موته في دوره القصير: “شو يعني لأنّه مواطن لازمْ يموت”، فأجابَها بضحكة من أتيح له دور المعلم لمرة واحدة “لكْ لا”، وسخر بضحكة أخرى، حتى كشف لها سرّ فرحه بالدور الصغير جداً: “لأنّي آخِدْ دور فيّو كلامْ”، ولمّا اكتمل نموّ لسان سالم، وصار البطل والمخرز، قال ما امتنعتْ جموع الكومبارس عن قوله قبل موتهم: “سوريّة بدها الأسد”!
“الإدعشري” يسمّي الثورة أزمة. يفركُ كفيه، ويعيد تعريف المصطلحات، ويجلس اليوم بعدما تجاوز نصف قرن بكثير أو بقليل، بقميص أبيض لا بقعة حمراء في كمّه المكويّ، وسترة سوداء كأيّ رجل بشَعر أبيض يحرص على تضاد الألوان في لباسه أمام كاميرا التلفزيون المحلي، ليتحدّثَ عن “الحسّ الإلغائي” لدى من يعارضوه، ومن يعارضون نظامه منذ سنوات ثوريّة، هؤلاء الذين أغلبهم الآن تحت الأرض أو فوقها بكثير.
لا يشكو الإدعشري من الإصبع الحادي عشر في قدمه، ما يتعِبه أنّ هناك من يقول له في المعارضة “إنْ لم تكن تفكّر كما أريد فأنت سلفاً عدوّي”، وهو يجلس باللونين الأبيض والأسود أمام شاشة التلفزيون المحليِّ الذي لديه كلّ مساء نشرة أخبار تعلن عن مقتل عشرات “الإرهابيين” الذين فكّروا قليلاً قبل سنوات ثوريّة وكتبوا أفكارهم على جدران درعا، طلباً لقليل من الحريّة.
بقميص أبيض، وسترة سوداء، أطلّ باجس وسالم والإدعشري، كنتُ أفضّلُ لو وضع على رأسه البرنيطة، وأدّى دوراً جديداً قبل أن يبكّر في الذهاب إلى نهايته، وشيخوخته. حزنتُ كأنّي ابن أخيه، فقد وقفتُ أمامه مبهوراً قبل أعوام لا أذكرها بجوار صلبان الفحيص، وكنتُ قد انتدبته للقاء الشام وسمر سامي، شريكتنا في كلّ ما تأخّر من الحبّ.