فلسطين التي أسماها غسان كنفاني أرض البرتقال الحزين، والبرتقال الذي فضّله محمود درويش على الميناء، لا يمكن وضعهما، فلسطين والبرتقالة، على السبورة في درس حساب ابتدائي، ليتعلم الأطفال عملية الطرح، ثم تظلاّ على اللوح سنوات أخرى ليتعلم فتية درس القسمة. فلسطين الصغيرة بخارطتها التي لا تزيد على جسد طفلة حنطية، بالكاد تكفي أحلام شعبها دون أن يمدوا يداً أو ساقاً، حتى شوارعها لن تكفي بعد تحريرها لأسماء كل من قتلوا من أجل لافتة زرقاء على مداخلها: “فلسطين ترحّب بكم”.
صحيح أن ياسر عرفات قبِلَ في السبعينيات بما هو أسوأ من قرار التقسيم الذي كان من مشتقات الكفر، ثمّ خرج في الثمانينيات من بيروت إلى الماء، يبحث عن خفر السواحل الأمريكي. أعلن من الجزائر دولة ليس لها من الدول سوى العَلم، ثمّ جلس في عام التسعين الأغبر إلى يسار صدام حسين حتى يشاهده الأمريكيون بوضوح، اختفى عامين عن وسط الشاشة وسقط في صحراء ليبيا، وبسحر مبين ظهر في العام الثالث في حديقة البيت الأبيض، هناك بادر لمصافحة إسحق رابين، ثم هرول إلى شبه دولة في المقاطعة والقطاع.
قتل الإسرائيليون رابين في العام الخامس ليحافظوا على أرض الضفة التي هي بلسانهم “منحة الرب”، ثمّ أخرجوا من الجيب اليمنى ابن أمريكية، هو بنيامين نتنياهو، الذي أمسك بملفِّ اتفاق أوسلو، ومزّق أوراقه على مهل في ثلاث سنوات، حتى عادت إسرائيل في العام الأخير من الألفية إلى اليسار، حاول ياسر عرفات استغلال الفرصة، ذهب إلى كامب ديفيد، أطاع بيل كلينتون وإيهود باراك، وفي صورة شهيرة استجاب لدفعهما ودخل أولاً إلى الغرف المغلقة، هناك قال لهما إنه آخر فلسطيني يمكن أن يفاوض ويتنازل ويقبل الفلسطينيون بتنازلاته، لكنّ للتنازل حدود. رفض التوقيع وأشعل بمسدسه الانتفاضة الثانية، عندما أدرك أنّ من قتل رابين لن يعطيه دولة ولو في جنين.
اقتيد اليسار الإسرائيلي إلى المتحف، ونزلت إسرائيل كلها إلى آخر درجات اليمين. مات ياسر عرفات، ومات قاتله أرئيل شارون. حاولت رام الله تقليد مشية الدولة، وفيما كانت غزة تبدأ حروبها، خرج أفيغدور ليبرمان، المتطرّف الإسرائيلي الكريه، ليقول إنّ النبي موسى “أخطأ” عندما اختار الشرق الأوسط أرضاً للشعب اليهودي منذ آلاف السنين. فقد اعتبر “واجهة” إسرائيل الخارجية أن اليهود كانوا يستحقون جيراناً مثل الإيطاليين والسويسريين، ولهذا حاولت إسرائيل بكل مجازرها إفناء الوجود الفلسطيني، لتجد نفسها في دائرة الشكّ تحاول التخلص من كوابيس العقد الثامن.
الآن وبعد أن سحب ياسر عرفات كفه من كفّ رابين، وصارت “أوسلو” فيلماً وثائقياً ممنوعاً من العرض، وبعد أن انتهى درس الحساب برفض الأطفال والفتية قسمة البرتقالة على اثنين، فإن الإسرائيليين يريدون الضفة الغربية التي يسمونها يهودا والسامرة، والفلسطينيين يريدون حيفا واسترداد يافا بـ “تل أفيف”، وهكذا فقد عاد الصراع إلى نقطة الصفر، أي إلى البحر، فحل الدولتين الذي يلوكه الأمريكيون والأوروبيون يعني أن دولة ستكون على اليابسة، وأخرى في الماء.