كأنك تجلس في صندوق كرتوني، وتظنُّ أنك في بيتك بين أربعة جدران بيضاء وشرفة من البلور العازل للصوت والحاجب للرؤية من الخارج، ثم فجأة تتداعى أضلاع الصندوق الكرتوني، وتجد نفسك واقفاً في وسط البلد أو ميدان طلعت حرب أو أي ميدان عام لا يخلو من الحمّامات العمومية، وهذا لأنك وضعت بأصابعك الزرقاء إعجاباً على أغنية كئيبة، أو علقت بقلب أحمر على صورة لفتاة تمطُّ شفتيها للكاميرا، أو أن أيقونة الرسائل أضاءت بأنك متاح للدردشة لنصف السكارى والباحثات عمّن يقدّس الحياة الزوجية.
تكشف على سبيل التعجيز للتي تعتقد أنك تقدّس الحياة الزوجية، عن حبّك الكاذب للطعام العراقيّ المعتمد على أحشاء وأرجل الخروف، ثم تذهب لقضاء يومك بعيداً عن الهاتف، ولأمر ما تضطرّ للعودة إلى يوتيوب بحثاً عن مصير نوري السعيد، فتندلق أمامك القصص المصورة من الموصل حتى الزبير عن “الباجة”، وأشهر المطاعم التي تصنعها في الثالثة صباحاً. تشكُّ بغباء لا تلام عليه أن الباحثة عمّن يقدس الحياة الزوجية قد اخترقت هاتفك، لكنك ستعرف مع التكرار أنها الخوارزميات التي قد تدفعكَ لحبّ ما كنتَ متردداً في حبّه!
أنت الآن خارج الصندوق الكرتوني، فإن أمسك زميلك بهاتفك لأمر ما، سيعرفُ ما تحبُّ أو ما صرتَ تحبه، ولو أعطيتَ هاتفك لصديقك ليختار أغنية للطريق، سيعرف بالخطأ أو بالقصد عن أمر “السلعة المعيبة” التي كنتَ تبحث عنها، والتي كتبتها بسبب الفضول والضجر على محرّك البحث، فصار المنتج الفاضح يظهر كلما فتحت تطبيقات المتاجر الإلكترونية. عليك إذاً حين تكون داخل الصندوق الكرتوني أن تحسب حساب الوقت الطويل الذي ستقضيه خارجه، حين تكون مستباحاً للأعين التي في داخلك، وهي أكثر من الأحذية التي تمرُّ فوق عتبة بيت العائلة الكبير في يوم الجمعة.
سيقلُّ اجتماع حرفي الخاء والصاد، فلا خاص أو خصوصية ولا تتحدث عن شيء مخصص لك أو أعدّ من أجلك خصيصاً، فأنتَ مستباح ومباح ومتاح، ومزاجك واضح وفاضح كأنك تجلس على كرسي من الحجر على الكورنيش في الواحدة ظهراً، إن تبسّمتَ فكل المارة يعرفون أنك تطالع محادثة دافئة جرت في الواحدة صباحاً، وإن عبستَ فذلك لأن الساعة الواحدة لا تكفي للقاء امرأتين دافئتين. تظن أنك لو كنتَ جالساً في الحديقة بملامح محايدة ستحتفظ بنفسك لنفسك، فتلوم حاجبيكَ على انعقادهما أو انفراجهما، وعينيك على صفائهما أو احتقانهما، وأصابع كفّيك على هدوئهما أو توترهما، وفمك على تنفُّسِه.
أعرفُ أنك تحلم الآن بالعودة إلى الصندوق الكرتوني، إلى بيتكَ الذي من أربعة جدران بيضاء، وشرفة من البلور العازل للصوت والحاجب للرؤية من الخارج، تبتسم أو تعبس، هذا شأنك، كل ما تريده هو أن تُعيد النقطة إلى الحاء. خاص لا مباح. نعم هذا ممكن، تأكّد فقط، من غلق بابك، وستائرك عندما تغيب الشمس، تأكد أيضاً أنك حين تجلس على أريكة الملل، بأنك لن تهتم بتفسير انعقاد حاجبيّ الرجل الذي كان قربكَ يطالع هاتفه عندما كنتَ تتذمّر من سقوط النقطة عن الخاء في حاء الحديقة.