لم يمت زياد العناني فجر الخامس والعشرين من أيار، منتصف العام الرابع والعشرين من الألفية الثالثة، كما ستؤكد ذلك كتابة سوداء على شاهد قبر في مقبرة ناعور، صحيح أن صحفاً أكدت النبأ وأضافت إليه سيرة مختصرة لمن سمّى الدموع وكانت شمسه قليلة، وهناك أصدقاء لا شكّ في صدقهم ذرفوا دمعاً افتراضياً على جدران غير مخصصة للاتكاء، لكنه إعلان متأخر، كما تتطلب ذلك الوفيات المعقّدة، تلك التي لا تنتهي ببساطة بعد صراع غير متكافئ مع المرض.
زياد لم يصارع مرضه طويل البال، فقد أصيب بجلطة دماغية في يوم حار من آب، في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة، وفي شتاء العام التالي، لم يمانع أن تبتر قدمه بمضاعفات السكّري، فظلت ضحكته الفاجرة وإصبعه الأوسط، هما ما يدلُّ على قليل من الرفض وكثير من القبول. ثلاثة عشر عاماً، كان زياد العناني في بيته الأبيض في ناعور، انحسر قاموسه من الشتائم، ولسانه الثقيل اقتصرت وظيفته على تمرير ضحكه الصاخب، أما دمعه فكان من ذلك الذي لا يمكن تسميته.
إذاً فقد مات زياد العناني في ذلك الصيف من ذلك العام، عندما تجمّدت أصابع الشاعر، ولم تعد تقوى النقر البطيء على لوحة المفاتيح. كان زياد يكتب كما لو أن طائراً ينقر جذع شجرة، نقرات قليلة متباعدة، ثمّ يقرأ لأقرب صديق “أحمدُ ربّي/ لأول مرة/ أضحك/ من دون أن يوجعني/ فمي”. وعندما صار الشاي الأسود “أنكر” ما هو مسموح بشربه، ولما تأخّرت سيارته البيضاء عن مواعيد الحبّ في المجهول من شوارع عمّان، وحينما افتقدته قهوته المُرّة على طاولة في كافتيريا صحيفة الغد، مات زياد للمرة الأولى.
زرت زياد العناني في بيته الأبيض بعد مرضه مرات قليلة، وفي كلّ مرة كنتُ أندم، فقد فضّلتُ أن أكون صديقاً خفيف الوفاء، على أن أرى زياداً آخر غير ذلك الفاعل المزهوّ الذي يدبّر كمائن طويلة الأجل. التقيت زياداً أول مرة في رابطة الكتاب، ثمّ ربطتني به صداقة لم أحاول تفسيرها، هو مرة رفيق سوء يدلني على الطرق الخاطئة لقلب امرأة متمنِّعة، وأحياناً هو أبي، فينعتُ كاظم الساهر بـ “ابن الحرام”، لأنه لم يزدني من العشق سوى الكآبة.
مِتَّ يا زياد، هذا ما قالته الصحف وما كتبه الأصدقاء وأكده شاهد القبر بالأسود الذي لا لبس فيه. لا أعرف كم مرة قد مِتّ من قبل، فقد أهملتُ زيارتك ومهاتفتك، مثل أي كائن مزهو بحياته، أو ربما طمأنتني آخر ضحكاتك عبر الهاتف، ثم ابتسامتك للصحافيين في حفل متأخر لتكريمك، ربّما، لا أبحث عن أيّ عذر فبإمكانك أن تشتمني الآن لو استطعت، ولعلمكَ فإني لم أبكِ عندما عرفتُ بنبأ وفاتك هذه المرة كما فعلتُ عندما مِتَّ أول مرة، بل هاتفتُ موسى برهومة، وضحكنا على كلّ الفجور الذي كان يضحكك.