أنا مقاوم. صحيح أني لم أحمل على كتفي آر بي جي. لا هذا تطرُّف في ضرب الأمثلة، بل لم أحمل من الأسلحة إلا سكين المطبخ، ولأغراض سلمية لم تزد عن ذبح حبة بندورة. لكن كيف صرتُ مقاوماً. شعرتُ مثل أي عربيٍّ بالتقصير تجاه “الغزازوة” بالفلسطينية، و”الغزيين” بالفصحى، عندما اكتشفت أن كل ما استطعنا فعله هو إرسال مساعدات “آمنة” لم نتأكد أصلاً من وصولها، فظل في إحساسي الفلسطيني والعربي، فراغ واسع لم أتأكد أني ملأته، إلا عندما راجعت هذه المواقف و”الأحاسيس” التي نخرت ضميري.
كنتُ أصحو على صوت المنبّه، لكن بالأمس استفقت قبل موعدي على جرس الباب وهو كما تعرفون صوت كهربائي للعصافير. فتحتُ الباب بعبوس مستنفر للغضب، تمهّلتُ قليلاً وتذكّرتُ أن “الغزازوة”، بعضهم لا يتاح له النهوض من النوم، وبعضهم يكون في فراشه الأرضيّ، فيصحو على صوت مثل “القيامة”، قد يجد نفسه غير مكتمل تحت الأنقاض، وقد لا يتاحُ له الحزن على نفسه بأن جزءاً منه سيُدفن في مقبرة جماعية للأجزاء. “قاومتُ” العبوس وابتسمتُ لعاملة المنزل التي جاءت قبل موعدها مثل “غارة”.
جاء صوت بائع الخضار مرتفعاً أكثر من مستواه المعهود، ربّما بسبب “التنزيلات” التي أراد صدمتنا بها. توتّرتُ، ركلتُ وسادة، وخرجتُ إلى الشرفة، صارخاً أن يرحمنا من صوته “الكلثومي”، فردّ بوقاحة: “لا تؤاخذنا حضرة الشاعر”. فتحتُ التلفاز بيد، وفي يدي الأخرى كوب قهوة إيطالية صنعته لطرد صدى صوت البائع من أذني. كان تقرير على التلفاز من غزة، وخلف صوت المراسل، صوت “زززززز” يتكرّر، أوضح المراسل أنها الطائرة “الزنانة” كما يسميها الغزيون، وأنها نذير قتل، وتتلف الأعصاب، فلا تتوقف ليلاً أو نهاراً.. ارتجّ الكوب في يدي المتوترة التي ضعفت “مقاومتها”، فذهبت يدي الأخرى إلى قناة الأفلام العربية.
ضغطتُ على اللون الأزرق في مبرّد الماء، امتلأ ثلثا الكوب، فوضعته أسفل اللون الأحمر لأملأ الثلث الباقي. كان الطعم فاتراً أكثر مما توقعت. يبدو أني كنتُ عصبياً بسبب خصم غيابي بدون عذر عن العمل، فكسرتُ الكوب، وبحثت عن فائدة في هاتفي، فرأيتُ فتى غزاوياً يشربُ ماء المطر النازل من باب الخيمة، وفي فيديو آخر ذي صلة، رأيتُ غزيين يركضون حاملين غالونات وراء نداء بأنّ هناك مياهاً حلوة، بعد شهرين من العطش الساخن والمُرّ. “قاومتُ” عطشي لأني حردتُ ولم أشرب الكوب الفاتر، و”جاهدتُ” لمحو حمرة الخجل ودمع يابس.
رن هاتفي، إنه إشعار بنكي بنزول راتبي إلى البنك، وبعد حسم عقوبة يوم واحد، فإن خانات الراتب ظلت كما هي، لا يمكن عدّها من النظرة الأولى، لكني “قاومتُ” أدنى شعور بالتأفف، فلقد ظلّت إجابة طفلة غزية على سؤال “لماذا تبيعين الشاي” ثلاثة أيام في رأسي مثل الصداع. انفراجة شفتيها لم تكن ابتساماً، حركة يدها اليمنى لم تكن اعتراضاً. صبت الشاي في كؤوس بلاستيكية بكف، ليست هي كف أرملة أو أخت كبرى، إنما طالبة في الصف السادس.. صف نصف طالباته شهيدات أو بائعات شاي لا نعرف إن كان فيه سُكّر.
“أقاوم” إحساسي بالجوع لما أعرف أن حصول أفراد عائلة غزية على منقوشة زعتر، كأنهم أكلوا مقلوبة اللحم والباذنجان. “أقاوم” الحزن على ذكرى وفاة أبي قبل عشرين عاماً، عندما أسمع أن مئات الأشجار من العائلات ماتت كما يحرق المستوطنون غابة. “أقاوم” الابتسامة عندما أرى ابتسامة طفلة غزية عثرت على لعبتها سليمة بين أنقاض بيتها. “أقاوم” ألم خنصر قدمي الذي ارتطم بخشب الطاولة حينما أعلم أن طفلاً غزياً في السادسة أجرى جراحة لبتر قدمه من دون مخدّر. “أقاوم” خجلي وحرجي وبؤسي ووخز ضميري وشيئاً من العار، فكم هي شاقة “المقاومة”.