ينتمي كلّ سكّان الأرض إلى “الإنسان العاقل” وهو النوع الوحيد الذي يمتلك خلافاً لبقية الحيوانات دماغاً عالي التطور، قاده إلى اكتشاف النار والفأس والرمح والقصدير، وبعد آلاف السنوات، اخترع الأسبرين والمصعد الكهربائي وفرشاة الأسنان الكهربائية. لم يكن هذا متاحاً لولا امتلاك الإنسان العاقل جسماً منتصباً ذا أطراف علوية وسفلية، يحرّكها بيسر بأوامر من الدماغ، ولولا قدرته على التفكير المجرّد، واستخدام اللغة والنطق من خلال حنجرة معقدة التكوين، لا تملكها باقي الثدييات.
كُتبت الفقرة أعلاه من خلال الاستعانة بالموسوعة الحرة “ويكيبيديا”، فلم أكن متأكداً من التعريف الجامع والشامل لمفردة إنسان، إذ أني في المرحلة الابتدائية كنتُ أضجر من حصة العلوم وأستغلها بمحاولة توقع لون الشَعر الذي تحت حجاب “أبلة زينب”، وفي الإعدادية انشغلت بتدوين الشِعر على الجدار الأصفر، أما في الثانوية فقد صرفتُ كلّ طاقتي الجسدية والعقلية لأجعل ناقتَها تحبُّ بعيري. لمّا كبرت، وتمدّدت أطرافي أكثر وانتصب جسمي، اكتشفتُ أن مكتبتي تقتصر على كتب الأدب التي ألفها الإنسان، فلم تدلني بشكل صريح إلى “الإنسان العاقل”.
عرفتُ بعدما فاتني الكثير من المعرفة، أن الإنسان بعدما اخترع الفخار والمقصّ وطائرة الإف 16، تفرّغ لاكتشاف أهم ما في مملكته الحيوانية من أجهزة، وهو الجهاز العصبيّ، وكم تعجبّتُ أن لدى الإنسان العاقل خمسة وعشرين نمطاً مستغلاً من العواطف، فهو يعجبُ بالجنس الآخر منه، وربّما يتطور الأمر إلى عشق أو حتى عشق ذبّاح، كما أنه يقلق من تغير لون الجلد، ويرهب تجريب غير المجرّب، ويملُّ من الإعادة العاشرة للمسلسل الإسباني، ويشمئز من مرادفات البراز. يفرحُ الإنسان العاقل ويحزن، يبتهج ويرتاح، ويدهش حتى لو تكررت الدهشة.
بالغ الإنسان العاقل في استخدام عقله، وحين صنع كل ما يحتاجه، ذهب إلى ما لا يحتاجه، فصنّع الذكاء. صار هناك من يكتب ويقرأ بالنيابة عنه، ويقوم بكل الأعمال التي يترفّع عنها. أصبح هناك من يخبره بطريقة إفريقية لصنع اللازانيا، ومن يرسم له الموناليزا بملامح آسيوية، يمكن أن يدفعه الضجر من قلة العمل لمشاهدة فيلم من بطولة أنجلينا جولي وأحمد زكي. لم يعد بحاجة إلى قفازات ليفتح الفرن، فقط عليه أن يهمس في سماعة ذكية، وهكذا بالغ الإنسان العاقل في الترف والبطر، حتى بالغ في التخلي عن عقله.
ثمّ جاء السابع من أكتوبر المجيد، فاكتشف الإنسان العاقل قطاعاً جغرافياً يطل على البحر من الغرب وعلى الاحتلال من الشرق. اسمه غزة. عرفه الكنعانيون والفراعنة، وعاصره الآشوريون واليونانيون، وهاجمه الصليبيون وحكمه العثمانيون. حاول العبرانيون إخضاعه، فشربوا البحر. يقرأ الآن الطالبُ الأمريكي في كلية جون كينيدي عن غزة، ليكتشف إنسانها الجديد. يرجع العامل الفرنسي من مصنع الدباغة لينخرط في مظاهرة تهتف بأسماء غزة. وهذا هو اليابانيّ الذي لم يضطرّ يوماً لاستعمال الشارع لغير أغراضه، يهتف بلغته الحرة: غزة.
غزة هي العاطفة الجديدة، يا أخي العربي، والشعور الذي لم تشعر به من قبل. غزة هي التي تحدد نسبة الدم في دمك، وهي التي يا أخي الإنسان ترفع أو تخسف التصنيف الإنساني. غزة هي التي علّمتك أن المقصّ بإمكانه أن يقارع الإف 16، والأسبرين يمكن أن يؤخر انتشار السرطان، وغزة هي التي تجرّبُ غير المجرّب ولا ترهب، وهي التي تذكّرك الآن بأن لك جسماً منتصباً ذا أطراف علوية وسفلية، يمكّنك من الدعاء لها إن فقدتَ أقوى الإيمان. غزة يا أخي هي الشعور الذي إن لم تشعر به لم تعد عاقلاً ولا إنساناً.