في صباح مكدر من صيف 1982، قرأت الممثلة المصرية نادية لطفي عنواناً صاعقاً في صحيفة الأهرام: “إسرائيل تجتاح بيروت”. شعرَتْ “بولا محمد شفيق” وهي أيضاً الفارسة لويزا النبيلة، بأن أرييل شارون وجّه إليها إهانة شخصية، وأنها كابنة لرجل مصري فلاّح، مطالبة بفعل أكبر من أن تندّد في وقفة أمام نقابة المهن التمثيلية. وبعد أن خذلها فنانون ومثقفون، قررت أن تركب البحر المتوسط مع ثلاثة أصدقاء، بمونة ممتدة الصلاحية، وقفص مانجو، وقهوة وكرامة متجددة غير قبالة للنفاد.
بعد أيام غير مأمونة في البحر، التقت الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في بيروت الغربية، وحين عاتبها على المخاطرة، ردّت بأنها مستعدة للدخول في الحيطان والنار. تجوّلت مع الفدائيين في شوارع العاصمة المحاصرة من الإخوة والأعداء، ورفعت معهم شارات النصر، وتفادت الموت، كما تفادته في بورسعيد حين تعرّضت لعدوان ثلاثي فكانت الشابة نادية متطوعة لعلاج الجرحى، أو حين نقلت إقامتها لمستشفى القصر العيني لعلاج جرحى حرب أكتوبر، فالشعور الوطني والحس القومي لم يهبطا عليها في ذلك الصباح الصيفيّ المكدر.
أما الآن في هذا الخريف السُّخام، حين نقلّب أسماء أعضاء نقابات التمثيل والغناء من ماء إلى ماء، لن نعثر على “بولا محمد شفيق” بنت فاطمة، وليس من بين أحلامنا أن يُسيّر “قيصر” و”ملك الجيل” و”أمير الغناء” و”فنان العرب” مركباً إلى شاطئ غزة الناريّ، فالزمان الآن ليس مكدّراً فقط بل سُخاماً، نريد ما هو أقل: التصريح الصريح باسم القاتل، فأطفال غزة لم يموتوا بالحصبة ولسعات النحل. وقف الغناء حتى تبرد الدماء على الأقل، لا أن تجفّ، فلن نقبل الخسارة على المتعهّد حتى تجف الدماء!
لكن يبدو أننا لم نُقدّر عدد طبقات السُّخام، ولم نعرف إن كنا ما زلنا في الخريف أو فيما هو أعرى، ففوجئنا بمن يتحدّث عن الصراع بحياد راجف كأنّه فرنسي اكتشف غزة مع اكتشاف الآيباد، ثمّ جاءتنا مغنية تخشى على “رزقها” من تأجيل حفل حتى يبرد الدم، وكأنها كانت ستنام تلك الليلة من دون عشاء، وهذا ممثل ستيني يرقص بمؤخرته وكرشه، ويقسم ثلاثة أيمان مشكوك في صدقها أنه لم يفعل ذلك من أجل المال. وقطيع، قطيع بلا نهاية من نجوم الأرض الذين يتسابقون في الصعود إلى باب الطائرة بإشارة من العِقال.
كنتُ أحبُّ كثيراً منكم، ليس لأنكم الأفضل، بل لأن هذا هو المتوفر على الرفوف من صنفكم. كنتُ أعرف أن ليس بينكم ثائر، ولا مثقف مشتبك بما هو دون الانتحار، وكنت متأكداً أن “الاحترام” في قواميسكم المحدودة هو في احترام عقود الاحتكار، وما زلتم محتكرين، ولا ضير هنا من تبديل الحروف. كنتُ أحبُّ كثيراً منكم، وكتبت عن كثير منكم، ولستُ آسفاً، فلا أحبُّ الندم، لكني سأتعلم التأني.
لا تكن “قيصر” يا هذا، ولا تكن “ملك الجيل” يا ذاك. لا تكن “فنان العرب” أو “أمير الغناء”.. كونوا نادية فقط!