كلّما فتح الكائن الفيسبوكيّ الكتاب الأزرق، يُطالبُ بالإجابة بعدد غير محدود من الكلمات عن سؤال لحوح: بمَ تفكّر الآن. وهو تحريض مكشوف لأن يدلق الكائن الأزرق كلّ الكلام بلا حساب، ثمّ يسيل على الجدار، ويصبحُ مقروءاً من الأصدقاء، والمتابعين، والفضوليين، وأولئك الذين يجلسون في أوقات الدوام الرسميّ في غرف المراقبة المعتمة. لا يكتفي الكتاب الأزرق بذلك السؤال الزنّان، فلديه أيضاً صيغة آمرة، وإن كان فيها رجاء كثير واستجداء مهين: اكتب شيئاً.
استجابت الكائنات الفيسبوكيّة للسؤال الذي يظهر كلّما حكَّ الكائن جهازه: بمَ تفكر الآن. أخرجوا كلّ أفكارهم السوداء، تلك التي ما كانوا يجرؤون على قولها، قبل ميلاد الفاكس، في مونولوج مكتوم قبل التأكّد من خلوّ الأباجورات من أجهزة التسجيل المزروعة. وتسابقوا في عَدْو بلا حواجز على مجاراة العبارة التجاريّة: اكتب شيئاً. صار لدينا شعراء يملؤون بالتناوب ستاد المقاولين العرب، وشاعرات أكثر من حبوب الأرز وذرّات البهار الهنديّ، وكتّاب من عجينة هيكل، وسياسيون من جذر جهبذ، وأبطال من ورق مقوّى، فيما انقرض تماماً ونهائياً الكائن الذي كان على باب الله.
نشط الموظفون في غرف المراقبة المعتمة، وراجت قضايا السبّ، وازدهر موسم القذف، وازدحم أرشيف المحاكم بالملفّات المستجدة، وصار في السجون مهجع للفيسبوكيين، واستمرّ الفضاء الأزرق في طرح السؤال الأشبه بالكمين الخبيث: بم تفكّر الآن. خرجت أجوبة من سيطرة العِقال، واستحدثت تهم تعكير الصفو، والتقويض والانقلاب، وما يزال الفضاء الأزرق يحرّض، ويناشد الكائن الفيسبوكي بأن: “اكتب شيئاً” ويرجوه أكثر بأحرف وهميّة: قلْ شيئاً يا رجل! فصرنا نقرأ عن بطولات زرقاء، وعبارات معارضة كُتبت بعيون مُحمرّة قبل النوم أو بعد الشروق بقليل، وذهبَتْ بكاتبها وراء العتمة، عاماً وأحياناً عامين مع الشغل والنفاذ.
ليس لدى الكاتب ما يكتبه، فكلّ منشور سيُنشر على حبال معامل التحليل، ويُنظر له من زوايا الوطنية والمصلحة العليا، والأمن القومي، والمسؤولية ليس فقط إن أجبتَ بأريحية غير محدودة عن سؤال فيسبوك المكرر: بم تفكر الآن، أو إن تجاوبتَ مع دعوته التحريضية “قل شيئاً”، فالتعليق أيضاً مثل الهتاف في المظاهرة المحظورة وهو “نقل صريح للكفر”، والضغط على زرِّ الإعجاب بمثابة تأييد علني وبـ قلب أحمر، أما المشاركة فهي اشتراك مكتمل الأركان في “الجريمة”.
ليس لديّ ما أكتبه، فلا أستسيغ طعم حليب السباع، وأبو زيد لم يكن في يوم خالي، ولا سيفَ على جدار بيت جدّي لأضرب به، لذلك قرّرت أنْ أنشر إعلاناً جدياً وللجادين فقط، لعرض شقة (عدد 3) مطلة على فيسبوك، للإيجار مدى الحياة، وهي من استعمال “كاتب” كان يفكر، ويودّ أن يقول شيئاً!