اعتقدتُ في السنوات الهجريّة الأخيرة أنّه ينبغي أن أثقل قليلاً، وأكون جاداً، تماماً مثل البيان السياسيّ، وحكيماً كما يبدو قارئ البيان، ومتلوّناً مثل الحِبر. تصورتُ أنّ شخصية العاشق الرخو المستعدّ دوماً للبكاء، لا تناسب المرحلة الراهنة التي تمت الإشارة إليها في البيان السياسي. ولا أنكر إحساساً مُعيباً بأنّي كبرتُ كثيراً على دور الرجل الخفيف بالقميص الأحمر في الفيلم الرومانسيّ، والمشي الكئيب على الكورنيش والشكوى للموج، وحبّ أيّ امرأة تخرج من البحر. توقفتُ أيضاً عن الكتابة في الحبّ، رغم أنّي اكتسبتها قبل ربع قرن، حين عجزتُ عن أن أقول لامرأة أحبٌّكِ.. فكتبتُها.
كبرتُ وفي رأسي شيبٌ يكفي لإضاءة الطريق. لم أهرم لكن ليس في ساعتي أربعون دقيقة حتى أعرف إجابة السيدة أم كلثوم إن كان الهوى غلاّباً، ويبدو أنّي كبرتُ أيضاً حتى لم أعد أصدّق أنّ مغنياً يمكن أن يمسك الهوى بيديه. لم أهرم لكنّي لستُ واثقاً إن كان في العمر بقيّة لإتمام قصة حب تركيّة من خمسة فصول مفتوحة. صحيح أنّي كنتُ عاشقاً تعيساً، أشدّ الحبّ من طرفي، وكان يمكن أن أكون قيسَ ثالثاً بعد مجنوني ليلى ولبنى، فأجنّ أنا بسلوى، لكنّ قلبي الآن كأنّه زاهد بما وراء الخمار الأسود.
كنتُ عاشقاً. هل نسيتْ؟ كان لدي احتياطي من الدّمع إن مرّت في الإذاعة أغنية سلامات بكآبتها العراقية، وافتنان مبالغ فيه بقصة حب مجوسية، ونظرة فابتسامة لكلّ عابرة أتوهم أنّها من فصيلة سعاد حسني. تجنّبت الخوض في الجدل السياسي بين ريتا والبندقية، وانصرفتُ لاستدراج ضفيرة إلى ساعدي. كنت عاشقاً ولي اسم حركي في العصر الأمويّ، وملامح شائعة في الزمن العباسي، شوهدت أقلّب الجمرات بدل الشواء، وقبّلتُ جدراناً مقشورة الطلاء، وكتبت في الصحف إنْ متّ فإلى اسمها انسبوني، لكني خرجتُ من كلّ ذبحات الحبّ حياً، وسأموت في الرابعة والسبعين، لا لسبب سوى نفاد الرصيد.
تمدُّ لي امرأة كفّها (كنتُ عاشقاً) تنتظر استجابتي (لستُ أنسى) وأن أكتب غزلاً صريحاً في مزيج الحليب والعسل. يبدو أنّ “الهوى غلاّب” كما أقرّت بذلك السيّدة أمّ كلثوم بعد أربعين دقيقة من الغناء الصعب، ويبدو أنّي على وشك العودة (سيدة أخرى كانت قد مدحت الرجوع) رغم أنّ أوصافاً قاسية وردت في البيان السياسي في ذمّ الرجوع. سأقلّبُ الجمر (فيما بعد)، وأقبّلُ الجدران (لستُ أنسى) كنتُ عاشقاً تعيساً، رغم القميص الأحمر الخفيف، ويبدو أنّ كفي وهنت، وقد تسقط في كفّها، وأمشي إلى الخاتمة. صحيح أنّي كبرتُ، لكنّ أمامي طريق، قدماي واقفتان.. والشيبُ ضوء.