امتنعت إحدى الجهات الرسمية عن تقديم الدّعم لنشر مجموعتي القصصية الأولى “السرير الحكّاء”. اعتذر لي المسؤول المهذّب، وتقبّلتُ الأمر، ولم أتاجر بهذا الرفض إعلامياً. أثناء مغادرتي مكتب المسؤول، ناداني موظف كهل، وأخبرني بهمس ولطف، أنّه قرأ مجموعتي القصصيّة، وقال إنّ لديه نصائح يتمنّى أن أستقبلها منه كابنه. تحدّث عن “الجنس الصريح” في المجموعة، ورسالة الكاتب السامية، وذكّرني أنّ اللغة واسعة، وتتيح لي تجنّب “الحرام”.
استمعتُ إليه بصبر، رغم عدم قناعتي بوصاياه. قاطعته لأردّ بأنّ الجنس في المجموعة يحمل إسقاطات سياسية واجتماعية عن سطوة القوي على الضعيف، وليس غرائزياً بالمجّان. لكنّ ردّه كان وعظياً، فآثرتُ أن أهمهم إمّا موافقاً، وإمّا معترضاً بسلميّة واستعجال، لكنّي اخترتُ الصمت، حين سألني الموظّف الكهلُ إنْ كنتُ أقبل أنْ يقرأ “أهل بيتي” المجموعة بصراحَتها. ولم ينتظر جواباً، فأكد لي أنّه من المستحيل أنْ يُدخل المجموعة إلى بيته، وتعوّذَ وهو يورد احتمال أنْ تقع بين كفّي ابنته.
الموظف الكهل، وهو أيضاً أبٌ “شمولي” كان يعتقدُ أنّ بإمكانه في العام ألفين واثنين أن يمنع وصول الكتب الورقيّة إلى ابنته، حين كان الانترنت يقتصر على مكاتب المدراء السعداء، والوصول إلى الرقم السريّ لجهاز المدير السعيد، والتنعّم بخدمة غوغل وتصفح موقع “إيلاف” بتحميل ثقيل، يحتاجُ إلى تحضير الشاي للمدير، والضحك على نكاته القديمة، وهدية كيلو عسل السدر الجبلي. كان الإنترنت محدوداً في مقاهٍ تضعُ تحذيراً عند الباب “التصفح غير آمن”، وفي منازل العاصمة كان كمالياً، مثل الحَمّام الثالث.
ليس الموظف البسيط، الطيّب، فقط الذي كان يعتقد أنّ له سلطة لا تردّ لإيقاف النّشر، وأن على مكتبه الفوضويّ توضع كل الكتب “الضالة” التي أوكلت إليه مهمّة إبعادها عن بيوت الناس، ورفوف مكتباتهم، وأكشاك أرصفتهم. دول حديديّة في الشرق كانت تعتقد أنه يمكن رفع الأسوار أمام سكّانها، ومنع “”الخبز الحافي” عن موائدها، حتى بوغتت بـ “رجس الانترنت” يدخل كالحصانة الدبلوماسيّة حدودها الرملية والبحرية والجويّة، وتقرأ الناس بأثر رجعيّ كلّ ما كان في مرصوصاً في المستودعات غذاء للقوارض.
قبل الانترنت السريع، ودهشة الفاكس، كان المنع أيضاً مخترقاً، والهواء يخرج من ثقوب المكاتب الرّمادية، بالحيلة، أو بالخطأ، وبالمصادفة أحياناً، ففي الجامعة قرأتُ كتباً كانت ممنوعة من دخول البلاد، لكنّها وقفت آمنَة مطمئنّة على رفّ المكتبة الجامعيّ لأنّ الموظف كان كسولاً أو متواطئاً. وفي المدرسة، في الصف الحادي عشر، قرأتُ “الربيع والخريف” لحنّا مينا. الرواية التي كتبها من وحي تجربته في المنفى المجريّ، عن مناضل اشتراكي يجد نفسه في المحصلة بين شرقين: عربيٍّ وأوروبي. سألني شريكي في المقعد عن قصة الرواية، فأجبته. لم يعجبه موضوعها، لكنّ فضولاً دفعه لتقليب أوراقها، قبل أن أعيدها إلى المكتبة التي أمينها “سَلفيّ”.
استعارَها، وقرأها، وشكَرني، وبعد شهر في الاستراحة، اقترب مني طالب نحيل من شعبة أخرى، وشكرني أيضاً على “الرواية الثقافية” التي علمتُ أنّها انتشرت بين الطلاّب بسبب مشاهد الجنس الكثيرة فيها، ولما اكتشَفَ أمين المكتبة السلفي أمرَها، وأتلفَها، كانت تباعُ بجانب المدرسة مصوّرة بـ “دوسيه” في مكتبة للقرطاسية، بجانب كتب تعلم الاغتسال من الجنابة!