كتب: د. موسى برهومة
لئن كان عنوَن كتابه “بنصف الفم الملآن”، فقد أرّخ نادر رنتيسي، لشبه سيرته، بالفم الملآن بالجمال الساحر، والمرارة التي جرت في حروفه مجرى الدمعة، من دون أن تترك وجعاً حارقاً في الحلق، أو فوق الوجنتين.
لقد طافت بي أحوال هذه السيرة، غير المكتملة، في عالم من الكشف لا يتأتى لأي كاتب. السيرة أو ما شابهها تحتاج إلى الاعتراف، وإلى شجاعة التعبير والبوح، ولا تتوخى، بالضرورة، استدرار العطف، وهذا ما تمثلتُه وأنا أطالع بمتعة صفحات الكتاب (176 صفحة) الصادر، أواخر العام الماضي، عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع، بغلاف أنيق، كالعادة، من المبدع الشاعر زهير أبو شايب.
“بنصف الفم الملآن” يروي نادر رنتيسي سيرة شخصية تخصه هو وحده، بسبب انقذافه إلى الحياة بشفة أرنبية، أعاقته وجلبت عليه التنمّر في المدرسة ومحيط الرفاق الصغار، كما أنها أنهكته نفسياً واستنزفت عائلته التي طافت به، أثناء مولده وإقامته في الكويت، في المشافي التي قضت بإجراء عمليات كثيرة لهذا الفتى، دون أن تتكلّل بنجاحات تمحو آثار “العلّة”.
لكنّ صاحب الشفة الأرنبية يقرّر حتى بعد انتقاله إلى الأردن واستئناف العلاج، أن يتعايش مع حالته، وهذه خطوة شجاعة واجهها بإرادة متينة، لا سيما وأنه اختار أن يدرس الصحافة ويعمل في هذا الحقل الذي يحتاج إلى احتكاك مُحايث مع الناس. لكنّ ذلك لم يفتّ في عضده، بل لعل هذه المحنة خلقت في صاحبها روح التحدّي، فأضحى صحفياً محترفاً وكاتباً له بصمته المميزة، ولم تعد مشكلته الصحية تثير غضبه، بل ضحكه وتعليقاته الهازئة:
تخلّصتُ تماماً من الحساسية المفرطة من السخرية من صوتي، “بل صرتُ الساخر، والضاحك مع الضاحكين، فبعد سنوات سأكتبُ على حائطي الافتراضيّ الأزرق، أنّي ممنوع في العمل من ذكر اسم وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، لأني ما زلتُ ألفظ الكاف ألفاً مهموزة إلى الأسفل، وإن نطقتُ “كيري” سيكون ذلك فعلاً خادشاً للحياء، وربما عملاً عدائياً ضد أميركا” ص 172
وقدم رنتيسي هذه الرحلة الصعبة في كتابه الذي توازت أحداثه مع وقائع كالحرب العراقية الإيرانية وغزو صدام حسين للكويت، فرصد الكاتب محطات مخفية من حياة الناس في تلك اللحظات القاهرة، كما عاين، بقلب المدقق الغارق في التفاصيل المبعثرة، محطات سابقة من طفولته، وعلاقته بأسرته، وبخاصة أبيه، ولم ينسَ أن يطعّم كتابته بحس كوميدي وروح ساخرة تغلغلت في أحشاء السرد، وحتى في اللحظات التراجيدية:
“كنتَ تحلم، قبل العشرين، أحلاماً واقعيّة لرجل سيكون كثير الضجر، بشاربين مكتملين، وبين أصابعه سيجارة دائمة الرّماد، يشرب قهوة مرّة دون امتعاض الملامح وغلق العينين. (…). وبعد العشرين بقليل أو بكثير، ستدوّن أحلامَك غير الواقعيّة لرجل رقيق راضٍ حليق الشاربين، ومسلّم بالقضاء في عيب خلقيّ بارز في الشفة العليا، لم يزده التجميل جمالاً” ص 128.