قصيدة لم يكتبها نزار قبّاني مرة أخرى، وأغنية لن يتكرر لحنها، لكنّ الخرافة كانت أول أسبابها: وقع خصام معروف بين عبد الحليم حافظ والموسيقار محمد الموجي، كان ذلك في نهاية حقبة الستينيات التي شهدت زواجاً فنياً بين حليم وبليغ حمدي. أنجزا أغنيات شعبيّة، وأعادا الأغنية الطويلة إلى حقبة السادات القصيرة، ثم افترقا.. وعاش بليغ وسواساً قهرياً بأنّ زوجة الموجي صنعتْ له حجاباً، فانسحب من أغنية حاول “تفتكرني”. في المغرب جرى الصلح بين حليم والموجي، وكان العربون لحن قصيدة نزاريّة من ورق الرسائل وماء البحر.. وبعد عام، في 1976، اكتمل الصلح بأغنية صار لها صيتُ القهوة.
قارئة الفنجان.. وفي خرافة أخرى، يقالُ إنّ نزاراً كتبَ القصيدة المأساة من وحي عذابات عندليب الشرقيّة، ابن الحلوات، يتيم الأبوين، المُبتلى بالبلهارسيا، وهو الأسمر النحيلُ الذي فشل في كلّ قصص الحبّ التي دخلها أو تخيّلها. القصيدة صدرت في ديوان اسمه “قصائد متوحّشة” سيصبح فيما بعد أسطوانة غنائية، حين كان نزار مهووساً بأن تدخل قصيدته المقاهي، وتركب حافلات النقل العام. ورّطَ الشاعر الشّاميّ حليماً بغناء القصيدة، أخبره أنّها سيرته التي لا تحتاج لشرح، وأن “سعاد” مرسومة بالبنّ الأشقر في زاوية من الفنجان المقلوب، وأضاف للقصيدة مقطع “فيروز الشطآن”، ولعدم إخافة حليم الواهن حذف “فنجانكَ دنيا مرعبة”، كيّفَها على صوت العندليب المُجَهدْ، وحياته القصيرة، ورأى الخاتمة.
خرج الموجي من غرفته على مقام نهاوند، وسلّمَ اللحن والغناء بصوته إلى حليم في فراشه، وفي موسم شمّ النسيم، في السادس والعشرين من نيسان للعام السادس من حقبة السادات، كان موعد إطلاق الأغنية التي ذهبت بدون واسطة الزمن من الولادة إلى الخلود. العندليب بدا مكتئباً، ورفض الاستماع إلى البروفة بصوته وهو يتحضّر للحفل، كما اعتاد في أغنيات سابقة. ذهب إلى مسرح نادي الترسانة، وكلّ علامات اليوم النّكد أمامه: شاب يحمل سترة مرسوماً عليها فناجين قهوة، رجال يقطعون وصلته بالصياح والصفير، ووراءهم رجلٌ غامض ستَكشِف ملامحه عن وزير في حقبة مبارك. ربّما لم يبك حليم الموجوع في إحساسه وكَبِده، لكنّ معاوناً له قال إنّه “تحسبَنَ” في الكواليس على نزار قبّاني الذي ابتلاه بالأغنية.. وقرأ له بُنّ الفنجان الأسود.
سيُغنّي حليم قارئة الفنجان في نادي الجزيرة، وفي معرض دمشق الدولي، ويظنّ أن دلق القهوة خير، وفي منزله سيستعيد من تحت وسادته كلمات أغنية مؤجّلة منذ عامين، بانتظار أن يُكمل محمد عبد الوهّاب لحنها. “من غير ليه”، يسمعها على العود، ويحفظها في بروفة، ويبدو أنّه قد نجا من “فنجان دنيا مرعبة”، وأنّ خطوط الحياة ستمتدُّ إلى أسفار أخرى وحروب مؤجّلٌ حسمها، وقبل موعد شمّ النسيم، في العام السابع من حقبة السادات، سيموتُ حليم المكتوبُ في خطوط يده أنّه ولد فنياً في ثورة يوليو ورحَل فيزيائياً عقب شهر واحد من ثورة الجياع. ألقتْ فتاة جسدها من شرفة، ونزلت دموع مالحة في النيل، وامرأة عجوز بمحاذاة الجنازة صرّتْ بمنديل فيه قيءٌ أحمر، والفنجانَ بالبنّ الناشف.