خرجت متثاقلاً إلى الحياة. لم أغلق باب الشقة الصغيرة ورائي، تركت التلفاز مفتوحاً، متيحاً لأيّ ممثل سينمائي حريّة الخروج إلى الفيلم الوثائقي الذي يُصوّر بمحاذاتي. مشيت بلا حذر في الشوارع الحارة، مغلقاً هاتفي المحمول، حملته فقط لأجعل من شاشته السوداء مرآة، لضرورة واحدة فقط: أن أتأكد أنّي الذي خرج من البيت، وليس الممثل ذا الوجه الجديد.
دخلت إلى السوق المكون من أسواق غير متجانسة: المول. لست كائناً كهفياً لأزعم أنها المرة الأولى، فعلت ذلك كثيراً، ففي يوم أمس ابتعتُ شفرة للحلاقة، وقبل يومين اشتريتُ مشطاً، وأشياء أخرى في الأيام الماضية تؤكّد أني إنسان مزاول للحياة. لكنها المرة الأولى التي أدخل فيها المول برغبة التعرف إلى الناس الذين يأكلون على طاولات مشتركة، ويعتذرون لبعضهم في التصادم غير المقصود، ويبتسمون.. أريد أن يبتسم لي أحد!
لم تبتسم لي ماريا الشقراء. تعمّدت الاصطدام بحقيبتها الإيطالية، لنستأنف الحديث بلغة وسيطة عن عادة حبيبها السابق في تناول الحبوب المؤذية. تأمّلتني كأنها لا تريد أن تعرفني وواصلتْ المشي بدون أن ترفق بشفتيها الابتسامة الدّارجة. مشيتُ أيضاً، وعند متجر الذهب الأبيض رأيتُ الآنسة “لنا”، تتأمّل عقداً منحنياً، وقفت بجانبها بحركة مرحة، توقعتُ أن تستدير نصف استدارة، وتضع كفّاً صغيرة على فمها لا تخفي الدهشة، لكنّها استدارت إلى الجهة الأخرى، ولم تتوقف للحظة لأؤكد لها نصيحتي السابقة بأنّ الذهب الأصفر يبقى الأصل.
السيدة الوقورة عفاف، تجاهلت ابتسامتي الموزونة للترحيب بها. اتخذت خطواتها الهادئة درجة الهرولة، ولم تنتظر لأجيبها عن سؤال وجهته لي قبل أيام. سألتني إن كان الحبّ يصابُ أيضاً بأعراض الضجر، وتركتْ توصيفاً رجتني أن أبدي رأياً فيه: قالت إنّ فرحها يتعرّض دائماً لنكسة سريعة، تماماً كما يموت متشاف من السرطان بحادث سير، وأردت أن ألحق بها، لكنّ هرولتها أصبحت ركضاً. الأخ عبد الحميد أنكر كذلك أنّ بيننا معرفة سابقة، أو اختلافاً أفسده الودّ، اعتذر بأدب أكاديميّ فاتر، وأخبرني أنّ لديه محاضرة لتعريف الشخص المنبسط.
لم تردّ سعاد على تحيتي، بقيت كفي مبسوطة كلّ البسط، مرّت بجانبي كأنّا غريبين ولم تجمعنا أم كلثوم في ميعاد فات، وهذه السيدة التي تدخل الأربعين، دعتني لأن أكفّ عن إيقاف الناس بشبهة الشبه التاسع والثلاثين. لا أحد يريد أن يعرفني في هذا المول البارد، حتى حين جلستُ على طاولة الطعام المشتركة مع الفتاة الغينيّة الرفيعة، وذكرتها بأنّ حواراً جرى بيننا قبل عام وانتهى بقبولي المتردد لصداقتها. حملتْ صينيّتها من الطعام المهدرج، وغادرتني إلى طاولة لا تقبل الشراكة.
جلست على مقعد حديديّ في المول، وحيداً كقشّة خارجة قسراً من طبق العدس الأحمر. أعدت تشغيل هاتفي، أضاء على مهل، كأنّ ثلاثة حبال من الشمس دخلتْ غِلابا إلى كهف مسحور. بدأ تطبيق واتساب بالعمل، وجاء أول إشعار من ماريا، ابتسامة وغمزة، ثم دخل تطبيق فايبر حيز الفعل، فجاءتني رسائل متتالية من الآنسة لنا تحتفي باللون الأصفر، ثم بدأ تويتر بالتغريد، واستهلته باقتضاب شديد السيدة الوقورة عفاف، بعبارة ملغزة: “لا شيء في الخارج”، وفي فيسبوك رأيت أربع رسائل غير مقروءة، من الأخ عبد الحميد، وسعاد، وسيدة تمشي مثل كرمة، وفتاة من غينيا أرسلت لي مجدداً عرضاً مختصراً للزواج.