وقف سعيد صالح على خشبة المسرح في العام 1973، بعد عشرين يوماً من بثّ التلفزيون المصريِّ نبأ، بالأبيض والأسود، يبشّر بنصر في أكتوبر. كان لذلك الشابّ الفلاح هيئة طالب مشاغب، يقلق نهار الاسكندرية، هو وأربعة طلاب آخرين، بينهم واحد يطمح للزعامة المطلقة هو عادل إمام، ولفترة محدودة سيكون اسمه بهجت الأباصيري. لا ينال التصفيق كله، والضحك مقسوم على خمسة، لكن البطولة تحسم مبكراً لسبب غامض، وقبل انتصاف العرض يعلن سعيد صالح بانكسار مبكر هزيمة مرسي ابن المعلم الزناتي.
تحدّدت إذاً قواعد اللعبة.. ففي كلّ عرض ينبغي أن يموت سعيد صالح قبل نهاية الفيلم بدقائق، على أن يبقى عادل إمام حياً، يحمل في الغالب سلاحاً غير مرخّص، ينتقم به من قتلة خميس وبرهومة وماهر ودسوقي وبركات، وهذه كلها شخصيات ممثل قليل الحظ حتى حين يكون رفيق الهلفوت، أو شقيق مشبوه تائب، فعادل إمام دائماً غالب حتى لو كان غريمه الحنَش، فإنّ المشهد الأخير له وحده يقرأ فيه، بأداء تمثيلي منفعل، السلام على ذكرى صاحبه.
وسعيد صالح سيصبح ممثلاً هرماً في منتصف السبعين. له قيد أمني بسبب تدخين الحشيش، وهي نهاية تنبأت بها مسيرته كولد بكر اسمه سلطان، وهو أحد “العيال” التي كبرت كثيراً، ثمّ غادر الطيش قليلاً، والأدوار التي تعطيه صفة النذالة أو الشرير الطيب، ليقف على المسرح مجدداً، مجرّداً من ظلّ عادل إمام، يقدّم رؤية ناضجة لمصر حين يقول في وصفها: “أمي تجوزت ثلاث مرات.. الأول أكِّلنا المِشْ، والثاني علمْنا الغِش، والثالث لا يهِشْ”، فصار في قيده حبس سياسي.
ونحن، ركّاب الدرجة الثالثة في أيّ قطار أو عرض أو شارع أو بلد، خسرنا مع سعيد صالح دائماً، ويُقال إنّ بيان نصر أكتوبر لم يقل شيئاً عن حصّتنا من الغنائم، فاقتصر دورنا في الاحتفال على الهتاف لموكب السادات، ومات كثيرون منّا في مواجهة الحنش، أو “على باب الوزير”، وبعضنا اختار موتاً استثنائياً على مسرح الجريمة، بوصفهم كومبارس يموتون فيه بمعية مجرم في العشوائيات الحديثة.
مات سعيد صالح فقيراً مُهمَلاً، وفي أيامه الأخيرة لم يكن قادراً على الوقوف بهيئة ولد مشاغب على المسرح، فقد هرم كثيراً بعدما هُزم أمام كل أبطال البوستر الدعائي للفيلم، وعاد إلى الحياة في السينما بشروط “الزعيم” فتقلَّص دوره من الموت المتأخر إلى الحياة القليلة الكرامة، حين يظهر في مشهد صغير يسقي فيه العسل لـ “الواد محروس بتاع الوزير”، أو يجلس في مصحّة بائساً مغبراً، يبول على نفسه، منتظراً زوج مصر الرابع، بذاكرة مثقوبة لما صار مصاباً بالزهايمر، فيسأل بجدية لا هزل فيها: “هو السادات مِسك الحُكْم”.. وكان من الضروريّ أن يبكي عادل إمام.. فبكى.