كان يبكي مصر في أعوامها السوداء و”زُهْرَة” التي فقدَ أثرها قبل عشرين عاماً بين قصتي حبّ خاسرتين، والزمن الطويل الذي سقط في حسابات سياسية بسيطة قُسمت على ثلاث ثورات. كان سريع البكاء، كطفل في السابعة والخمسين، ورجل لم تعد بلاده. مرّ العمر فوق قلب “علي”، وتسَرْسَبَتْ السنوات، وتراكمت على طرق العودة كحجارة الجبال، ولم يعد ممكناً أو واقعياً أن يعود إلى حواري الحلمية لوداع “ماما أنيسة”، وأن يسأل عن فتى ناصريّ خفيف القلب، كُتب اسمه أول مرّة على “تتر” البداية، بالأخضر الرقيق: ممدوح عبد العليم.
مات علي البدري بنوبة مباغتة خارج الاتفاق الدراميّ، وسقط السيجار الكوبيُّ من بين أصابعه، ولم يعد للقصة تتمة. قيل إنّه خسر الانتخابات أمام زاهر سليمان غانم، وكان يتحضّر لجولة أخرى في صراع الباشوات بين أبيه الباشا القاهريِّ سليم البدري، والباشا الفلاّح سليمان غانم، وذكَر أصدقاء مقربون أنّه هاجر في “العام الأسود” خشية الصلْبِ والتعزير، ثمّ راج أنّه اعتكف بعد انتهاء الجزء الخامس، وفضّل الإقامة الدائمة في أغنيات عبد الحليم حافظ، وتهيّأ للمارة أنّه شوهد يمشي كالعشّاق الخاسرين على الضفة الشرقية للنيل، يبحث عن أشياء أخرى في الحب.
نبأ الوفاة تأخّر كثيراً، كنتُ أستغربُ أنّ علي البدري ما يزالُ حياً، ويزاول الحياة معنا، وينشط ربما على فيسبوك في الساعات الأولى من الصباح، ويعلّق برومانسيّة الستينيّات على آخر مستجدّات تويتر، وله آراء معارضة مصوّرة بجودة سيّئة على يوتيوب. إحساسي بموته المبكّر ليس فقط بسبب موت المؤلف الذي ابتكره، والمخرج الذي يُحرِّكه، أو لأنّ ليالي الحلميّة مطفأة، والمقهى مهجور، ومقلوبة كراسيه، وأم كلثوم ساكتة في المذياع بسبب انفضاض الزبائن وعمّال المصنع، كنتُ على إيمان أنّ علي البدري لا يصلح لهذا الوقت، وأنّ اختفاءه كان انتظاراً أدبياً لمصير ممدوح عبد العليم.
وأُعلن النبأ في ذيل النشرات: مات ممدوح عبد العليم، وعلي البدري يجد أنّه قد حان الوقت ليُشهر موته، وشوهد الباشا سليم على يوتيوب يستقبل المعزّين على كرسيّه، وغاب سليمان غانم، لأسباب صحيّة معروفة، ولم تبدِ نازك السلحدار فرحاً لوفاة ابن ضرّتها، وأعلن الحداد في حواري الحلمية، وارتدت زُهْرة الأسود المزدوج على زوج سابق وحبيب راحل، وأضافت “أنيسة” صورة بشريط أسود على جدارية الغائبين.. ويذهبُ الذين أحبُّهم، لهذا أنا كئيب وحزينٌ لوفاة ممدوح عبد العليم، الشهير بـ علي البدري، لكني لا أكتب هنا عن الشجن، أتحدثُ أيضاً عن اختلاف الزمن.