مات حسني البورزان مخذولاً، وكان سر تغييبه غامضاً كالذي جرى في إيطاليا، ولم يحدث في البرازيل، وقُتل “ياسينو” الساذج، المعتّر في ظروف واضحة: قذيفة مجهولة المصدر. توفي أبو عنتر لما انتفت الحاجة إلى الشجاعة، وصار شكل البطولة يقتصر على مقالب رجل خفيف الوزن، ثقيل الظل، كان يسمى “غوار”، ولحكمة ما أضيف إلى الاسم كنية لا تنتسب إلى الأسماء الآدمية “الطوشة”، ولحكمة أخرى، ارتدى الطربوش، لما خلعه الأوادم، وانتعل القبقاب لما راج البسطار!
كان يمكن لـ دريد محمد حسن أن يظل مدرس فيزياء، في بلدة نائية في الجنوب السوري، يعلم طلابها المغبرّين دقة القياس، لكنه كان يبتكر، أمام الطلبة، طريقة قياس جديدة، تعيده إلى الشام، إلى ساحة الأمويين، لها سرعة الواسطة التي جعلته واقفاً بحجمه الضئيل أمام صباح قباني، يطلب الدخول إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون ليقدم سكيتش “الإجازة السعيدة”، لكن الأيام المحدودة صارت عمراً، والدخول لم يكن أبداً مثل الخروج، فمدرّس الفيزياء استقال من المدرسة، ومن الجامعة، ليقدم طلب انتساب إلى حمّام الهنا.
أخذ غوار الطوشة السكّر كله، وترك الملح، لـ حسني البورزان، صحيح أنه لم يتزوج فطوم، لكنه لن يترك غريماً له يهنأ بها، سيكون اليد الطولى في “حارة كل من إيدو إله”، وسيغنّي منفرداً في مقهى الانشراح، وتنطلي مقالبه على أبو صيّاح، الرجل الذي لا يكسر، وسيسجن بتهم واضحة، وأخرى غامضة، وثالثة ملتبسة، ويخرج في كل الحالات بتواطؤ من “أبو كلبشة”!
.. وخرج بطلاً، وإن لم يشارك في تشرين، إلا في مسرحية كان له فيها دور البطولة. لقّنه محمد الماغوط الحكاية كلها من غربة عندما كان مجرّد رقم، ثم العودة إلى الضيعة لتسويق النصر، وقطف شقائق النعمان، وشرب الكأس والوطن، وسيصدق السادة المشاهدون حواره مع أبيه من الجنّة، عندما قال بلسان الشاعر: “مو ناقصنا إلا شوية كرامة”، رغم أنه كان قد نال قبل زمن قصير تكريما “كريماً” من حافظ الأسد واستحق وحده من دون البورزان، والشاعر وفرقة تشرين، وسام الاستحقاق.
سيصنع المطر للمشاهدين، ولما يجف سحره، وتكسد بضاعة الكرامة، سيروي لنا التفاصيل التي لا تعنينا عن عائلته، وعلينا أن نحتمل لمجرد أن سلمى المصري أصبحت أخيراً زوجته، وعلينا أيضا أن نكف عن الحلم بعد أحلام أبو الهنا، وأن نراقب حيرة مدرّس الفيزياء عندما يحين موعد تقاعده الفني، ولا يتقاعد، وأن نحتمل عودة غوار مع أصدقائه المغلوبين، وسيجرّب كثيراً من الأدوار الصغيرة بـ “نوايا حسنة” اكتسبها من مهمته الدولية الأخيرة، لكنه يعرف، كما يعرف كل الفنانين، أن هناك دوراً لا يتكرر في حياة الفنان، يكون صادقاً فيه كأنه ليس تمثيلاً، وهكذا لم يكن دريد لحام سوى الدغري.