سقط مجسّم المرساة من قلادتي أثناء النوم. كان هدية صديقتي الطيّبة في عيد ميلادي الأخير، حتى أظلّ قوياً كما أحبّتني، وثابتاً على حبّها، مهما تقلّبَ البحر. وجدته على الوسادة، من دون القفل الذي يربطه بالقلادة، مفرغاً من قوته وثباته في نبوءة سيئة إن شعرت بسقوطه صديقتي الطيّبة في حَجْرها.. وهو الحجْر الذي يمنعني من الذهاب إلى الصائغ لإعادة المجسّم إلى صدري. ولأول مرّة منذ ثلاثين يوماً في الحجر القسريّ أغضب، وأفتح إلى الداخل.. بابَ جهنّم.
حطّمتُ كوب النسكافيه العزيز، وسدّدتُ قبضتي نحو الحائط، فركتُ وجهي بكفيّ مئات المرّات حتى كاد يتمزق، وصرختُ أمام قضبان النافذة مثل سجين اكتشف اعتقاله في اليوم الثلاثين. تحولتُ في لحظات من حيوان نصف أليف يقبل العزل الانفراديّ، إلى حيوان ثائر على كلّ أساليب الترويض. تذكّرتُ كلّ القرارات السيّئة التي اتخذتها في حياتي التي اكتشفتُ أنها كانت تعيسة، ولهذا استمعتُ إلى أغنيات عراقية نادبة، وصادفتُ فيلماً كئيباً لـ أحمد زكي يموت في خاتمته مثل طائر على الطريق.. نعم أتذكّرُ الطريق!
استعدتُ كلّ الأحزان التي كنتُ أمشي عليها، كلّ الخيبات التي حولتُها، كمذيع عربي، إلى انتصارات، بل كنتُ مستعداً لتحميل نفسي وزر نكسة الخامس من حزيران، وسقوط عواصم وعملات أمام الدولار، وفي هذه اللحظة السوداوية، أضفت أزمة سادسة إلى الأزمات التي هزّت العالم، وأفقدته توازنه، مثلما أقفُ الآن في بيتي مهزوزاً، بلا قوة أو ثبات، ألوم نفسي على أخطاء صدّام حسين التاريخية، وأتحمل بمسؤولية كاملة عن محمود عباس كلّ الثغرات في اتفاق أوسلو.. وعن أبي خطيئة إنجابي!
لستُ غاضباً لأنّي أخشى أنْ تعرف صديقتي بضياع القفل الذي يربط المرساة بالقلادة، فقد وصفتُها بأنّها طيّبة، وهي كذلك مثل راهبة، وصابرة مثل صليب. صوتها إن غضبت منّي أو عاتبني، يكون مثل غناء فرنسي، أرستقراطي. ربّما ستلومني برسالة صوتيّة يمكن أن توضع في مسلسل اسبانيٍّ، وتخبرني بثقة لا تكون سوى لامرأة إيطالية، ليس لي أن أحبّ سواها. بالطبع يا صديقتي، لم أكن أخشى سوء الظنّ منكِ، حتى لو أردتُ خيانتكِ في هذا الحظر والإقامة الجبرية، فلن يحدث ذلك إلا مع سعاد حسني!
غضبتُ لأنّي أردتُ استعادة صوتي الذي لم أستعمله منذ ثلاثين يوماً، ولأني خشيتُ من أن أستقرّ على كرسيّ المكتب المنزليّ مثل تمثال الحدائق العامة. لم أحتمل أيضاً صمت الباب الخشبيّ الذي يفصلني عن الخارج، لهذا صرختُ من وراء قضبان النافذة لأتحرّش بالبرود، وأهتكَ السكينة، وأعاركَ البلادة. كنتُ بحاجة إلى مبرِّرٍ لأفقد توازني، وأكون متهوّراً غير مسؤول، ومرفوعاً عنّي العتب والقلم، ولم أكن أخشى شيئاً، فلن يضير المحكوم بالإعدام.. جُنحة!
**
وجدتُ القفلَ، في الصباح التالي، فأعدتُ وصل المرساة بالقلادة، وعاد العالم إلى مكانه.