كان كابوساً. في الحلم عجزتُ عن تحريك أصابعي. عشرة مفاتيح صدئة كانت، إن حاولتُ ثنيها تفسّخت كالخبز المحروق، وسقطت ذرّات حمراء على أزرار الكيبورد الأسود، كحبّات السمسم من منقوشة الزعتر المتروكة على السور منذ ثلاث صباحات. أصابعي في الحلم الطويل الذي بدأ بعد نوم مضطرب بقليل، لم تكن أكثر من عيدان قرفة، أو قطع طولية لبسكويت فاسد، حاولت أن أنقر على زرّ التشغيل، فسقط من كفي طحين أسمر.
صحوتُ كئيباً. احتجت كامل الوقت القصير الذي يفصل الموت المؤقت عن بعض الحياة. تأكّدت أنّ ما كان حلماً، وأنّه بإمكاني تحريك أصابعي. الحاسوب المحمول بقربي على السرير كالجثة التي يمكنها أن تستعيد الحياة، والهاتف على الطاولة يضيء من بعيد ليخبرني أنّ عدة مكالمات ورسائل وردتني، وانتظرتْ طويلاً كالوقوف المملّ أمام عيادة الأسنان. مددت كفّي، لكنّي لما ضغطت بأصابعي لأشدّ الحاسوب، تفتت وسقطت ذرات حمراء. كأنّي ما أزال نائماً، والحلم مستمرّ، أو أني لم أنم، وهذه هي الحقيقة الثانية.
مرّ اليوم ثقيلاً كما يمرّ على عروس اكتشفت أنها تزوّجت عود القرفة، وكما يمرّ على عريس اكتشف أنه حطبة تحت المطر، لم أحاول تحريك أصابعي أكثر من محاولة مُهينة، تجعلني أراها تتساقط تحت قدميّ كما يتساقط الغبار عن رفّ الشرفة المهجورة. مددتُ كفيّ أمامي كمن تنتظر جفاف الحنّاء، راقبتهما متحسّراً، والندم أيضاً لا كبرياء فيه، وهنا هو طفل يقضم بحرد أصابع البسكويت المالح.
رن الهاتف وألحّ في رنين الرسائل من جهة واتس آب الخضراء، وجاءتني إشعارات لحوحة من أصدقاء مقيمين في الخيمة الزرقاء، وأنا عاجز تماماً عن فضّها، وقراءتها بفضول، وعن الإجابة التلقائية عن السؤال الذي لا يملّ السيد مارك من تكراره: “بماذا تفكر الآن؟”، هكذا وجدتني مضطراً لاستخدام الفم واللسان معاً، وأن أنظّم عملية معقدة لخروج الهواء من المخارج المخصصة للكلام، أنا الذي نسيتُ صوتي معلقاً على سماعة هاتف عمومي على الطريق الصحراويّ.
أصابعي تخشّبت قبل أن أرفع شارة النصر الوحيد، وأحتفل مع الخاسرين دوماً، وأصابعي من شمعٍ أصبحت قبل أن أجرؤ على الاعتراض البذيء من الظلام، مكتفياً بواحد منها، أظافري خرجت من اللحم، كما يهون الهوان، والرعشة، والرّعاش، والرجفة، واللهفة، التي كانت حين أصافحكِ، كلها لا تحرّكُ في هذا الصباح الكابوسيّ حرف السكون الذي ألبسه في خشبتي اليمنى، كخاتم زواج باركه بابا كاثوليكي.
صافحت الناس بودّ مرن لأتأكّد من قدرة أصابعي على الرياء، لوّحت لامرأة تطلّ من شبّاك الزوج المخدوع، حككتُ جلدي لأحدث جرحاً مثل كربلائي يختبر الإيمان، ولما امتلكتُ شجاعة أكبر مارست عادة الطقطقة السيئة، فلم يسقط طحين أحمر، أمسكتُ بالهاتف، دخلت إلى مزرعة واتس أب الخضراء، كتبت رسائل حبّ، ورددتُ على العتاب، وبرّرت أسباب الغياب كعائد من شبهة الموت.
وكان الوقتُ ظهراً، عندما مسّتني الكهرباء، وعرفتُ كما يعرف المجرّبون أنّ العطل كان تقنياً، وكلّ ما في الأمر أنّ بطارية كفّي قد نفدت في الليلة التعيسة، فاختلط الحلم بالواقع، وتفاقم إلى كابوس، ولما أفقت قرأت دعاء الخلاص من الكرب، ودخلت الخيمة الزرقاء، والآن بإمكاني أن أردّ عن سؤال السيد مارك اللحوح “بماذا تفكر الآن؟”.. أشعرُ أني قد استعدتُ صوتي!